قراءة في: (لبلابةٌ على وشكِ السُّقوط) لـ"عاطف عبد العزيز"


د. أمجد ريَّان – شاعر وناقد مصري

أولاً القصيدة:
***
لبلابةٌ على وشكِ السُّقوط
الوجه الآخر لمنتصف الليل
..
«أينَ تَذهَبُ الأيَّامُ يا أمِّي؟»
..
سُعاد الحُسَيْنِي تُنقِّي أُرزًا فِي الشُّرْفَة،
بينما طِفلُها،
يَقِفُ علَى أطرَافِ أصَابِعِهِ لِيَرَى بَابَ
حَدِيقَةِ الجِيران،
البَابَ الكالِحَ الذِي اعتادَ أن يَنَامَ
وراءَهُ اللّيل.
..
أيَّامَها،
كانَ إلفِيس برِيسْلِي كَلِمَةَ السِّرّْ.
فَبِالفَتَى اليَافِعِ هَذا،
تَمَكَّنَ الأمرِيكِيُّونَ مِن تَرتِيبِ أوضَاعِهم
بَعْدَ الحَرْبِ،
فِي مَرَابِعِ أوروبا الجَرِيحَة.
وبِطَلْعَتِهِ، التِي كانتْ تَكْفِي وَحْدَها
لإثَارةِ الزَّوابِعِ
فِي مَراقِصِ الخَمسِينِيَّات،
سَدُّوا مَمَرَّ فُولدا إلَى الأبَدِ فِي وجُوهِ
الألمَانِ الشَّرقِيِّينَ،
كَي يُبَدِّدوا أحْلامَهم فِي الوصُولِ
إلَى فرانكفورت
الفِردَوْسِ المَفقُود.
..
علَى جَانِبٍ آخَرَ مِن مُنتَصَفِ اللّيل،
يظَلُّ عبد الحَلِيم سِرَّ مِصْرَ الكَامِلَ،
لكنَّها،
-وفِي سَاعَةِ حَظٍّ- ستبوحُ بِهِ
وتستَريح،
فيقِفُ طِفلٌ فِي الشًّرفَةِ
علَى أطرَافِ أصَابِعِهِ،
لا لِكَي يَرَى بابَ حَدِيقَةِ الجِيران،
بل ليكشِفَ المَشْهَدَ الذِي انبثقَ
فِي الفَضَاءِ فَجأة،
بعدما
تَبَدَّلَتْ أحْوَالُ العَائِدِينَ مِنَ الحُقُول،
وطَالَتْ
سِكَكُ الذَّاهِبِينَ إلَى المَصَانِع،
وتَغَيَّرتْ
زَاوِيَةُ الظِّلالِ علَى أسْوَارِ البُيُوتِ
فِي مِصْر الجَدِيدة،
حتَّى تاهَتِ العَصَافِيرُ،
وحَطَّتْ
فِي أعْشَاشِ آخَرِين.
ثُمَّ كانَ أن نَبَتَتْ علَى طَرَفِ كُلِّ فِراشٍ
فِي اللّيل،
وِسَادةٌ
خَالِيَة .
..
«أينَ تَذهَبُ الأيَّامُ يا أُمِّي؟»
..
سُعاد الحُسَيْنِي تَبحَثُ فِي المِذيَاعِ عَن
تُخُونُوه ،
بينَما طِفلُها فِي الشُّرْفَةِ،
يتأمَّلُ الجُندَ المَحمُولِين إلَى الصَّحْرَاء.
الوَلَدُ كانَ واثِقًا،
بِأنَّ الزَّعِيمَ هُوَ الجِسْرُ الذِي يَعْبُرُ
عَلَيهِ النَّهَارُ كُلَّ يَوْم،
إلَى بَاحَةِ البَيْت،
لِيجفِّفَ الغَسِيلَ المَنشُور،
ويَشُدَّ خَيْطَ لَبْلابَتِهِ المُوشِكَةِ
علَى السُّقُوط.
..
بريسْلي- ودُونَ أن يَدْرِي -
كانَ أيضًا هُوَ الجِسْرَ الذِي عَبَرَ عَلَيهِ
السُّودُ فِيما بَعْدُ،
إلَى المَكتَبِ البَيضَاويّْ.
بَلْ كانَ الجِسُرَ الذِي عَبَرَ عَلَيهِ
البِيضُ
إلَى الهَوَاءِ الطَّلْقِ،
بعدَ أن حَرَّرَ ال (روك أند رولّ) مِن
حَظَائِرِ المَاشِيَة،
ومِن أدخِنِةِ التَّبْغِ الرَّدِيءِ
المَعقُودةِ
فِي سَمَاءِ هارلِم .
..
المُعضِلَةُ في حقيقتِها،
كانتْ تكمُنُ علَى الجَانِبِ الآخَرِ
من مُنتَصَفِ اللّيل.
صَارَ عبد الحليم الفَخَّ الذِي وَقَعَ فِيهِ
عُشَّاقُنا المُحْدَثُونَ،
حِينَ ظَنُّوا
أنَّ الوَسَائِدَ التِي تَرَكُوها
خَلْفَهم،
سوفَ تَبقَى خَالِيَةً إلَى الأبَد تُفَكِّرُ ..
فِي أصْحَابِها.
..
العَندَلِيبُ لن يَنتَظِرَ طَوِيلًا
فِي الفِيلمِ،
حَتَّى يَدفَعَ الثَّمنْ.
فَفِي المَلهَى اللّيليِّ، سوفَ يَرفَعُهُ الأصدِقاءُ
إلَى المَشْفَى
قُبَيلَ انفجَارِ مُصرَانِه،
لِيُعُودُوا بعدَ ذلكَ إلَى الرَّقْصَة،
كأنَّ
شَيْئًا لم يَكُن:
(رَوْكٌ أندِ رَوْلٌ) يا حَلِيم،
ثُمَّ (رَوْلٌ أندِ رَوْكْ).
..
بريسْلي الآنَ مُتحَفٌ،
حَلِيمٌ الآنَ .. وِسَادة.
يناير 2013
***
ثانياً: القراءة
الشاعر عاطف عبد العزيز واحد من كبار الشعراء الذين يكتبون بالعربية اليوم . وهو بسيط جداً في لغته ولكن نصوصه تتضمن معان فكرية وفلسفية عميقة . وهو قادر على طرح رؤية جديدة مختلفة في كل ديوان جديد ، وما تطرحه تجربة هذا الديوان "برهان على لاشىء" ، وفي مقدمتها قصيدة : (لبلابةٌ على وشكِ السُّقوط) هو معالجة شعرية بارعة لقضية تنتمي للمناخ الفكري مباشرة ، وهو ما لا يستطيع أن يقدمه في الشعر سوى الشاعر المقتدر . وعبارة "برهان على لاشىء" ذاتها ، ذات طابع فلسفي وفكري ، فالأشياء موجودة وغير موجودة، لأنها تتغير وتفنى كما أن المعنى يتضمن سخرية عميقة وتبدو المسألة كما لوكانت تناقش فكرة أن وجود الأشياء يساوي عدم وجودها لأن المجتمعات والأحداث مهما كانت جسامتها تنتهي لتستبدل بمجتمعات أخرى وبأحداث أخرى ، وأن ما كان يحدث فى الأرض في الستينيات قد انتهى تماماً واستبدل بأوضاع اجتماعية واقتصادية وإنسانية شديدة الاختلاف . بل إن المسالة قد تمتد وتتسع فنصل إلى أن التغير هو قانون الحياة ليس في الأحقاب والقرون والعقود فحسب ، بل في الساعات والدقائق والثواني وما هو أصغر من الثواني ، والتغير هو أهم قانون من قوانين الحياة ، التغير الجذري الذي لايتوقف برهة .
يجري الشاعر مقارنة بين أوضاع الغرب الأمريكي أو الغربي من ناحية ، وأوضاعنا نحن في بلادنا هنا في مصر من ناحية أخرى ، وهو ينظر إلى المجتمعين من منظورين : أولاً منظور الفن أو فن الغناء يالتحديد ، ثانياً منظور البعد الاجتماعي والحياتي للبشر . وعندما يقول في جملة قصيرة قبل بداية القصيدة : (الوجه الآخر لمنتصف الليل) فهو يطرح بالتأكيد مسألة صحيحة جغرافياً وفلكياً ، لأن نصف الكرة الأرضية يكون ليلاً في الوقت الذي يعيش فيه النصف الآخر في أجواء النهار ، وليس المقصود هنا بالطبع الاختلاف الفلكي أو الجعرافي ، ولكن المقصود هو طبيعة الاختلاف بين المجتمعين اللذين هما رمزين للمجتمعات البشرية كلها في هذا التوقيت . وهو يقارن بين منتصفي الكرة الأرضية منذ أواخر الستينيات ، أو بين الشمال والجنوب كما حدد بعض المفكرين .
أيامها كان أكثر المغنين شهرة في أمريكا هو "إلفيس بريسلي" المغني ساحق الأجواء الموسيقية الراقصة ، وساحر النساء والفتيات .
وكما يرى الشاعر فقد كان هذا المغني كلمةَ السر الأمريكية ، التي تمكن الأمريكيون بواسطتها أن يسيطروا على أوربا . وديدن الأمريكان منذ البداية هو جنون الغزو ، وقد قاموا بالفعل بالغزو العسكري الموزع على العالم كله .
وقد استخدم الأمريكان هذا المغني كوسيلة من ضمن الوسائل التي تعينهم على الغزو بأسلوب مختلف ناعم ، هو أسلوب فن الغناء ، وقد كانوا يسعون للغزو بكل الطرق ، بالقوات العسكرية الباطشة أو بفنون الغناء ، أو بالإعلام والإذاعات والصحافة . وفي الأسلوب العسكري استعمرت القوات العسكرية الأمريكية المنظمة ممر "فولدا" لكي تهدد ألمانيا الشرقية وتحاصرها وتخيفها ، لأن ألمانيا الشرقية كانت في هذا التوقيت رمزاً من رموز الكتلة الشرقية ، ولكن الأمريكان المهووسون بالغزو طوروا أساليب غزوهم ، واستخدموا الفن كأحد هذه الأساليب . ولاننسى أنهم هم الذين سخروا "ميكي ماوس" ، وسائر فنون "والت ديزني" لغزو العالم بأسره ، وقد برعوا أيضاً ، في تسخير الفتى اليافع "إلفيس بريسلي" :
..
تَمَكَّنَ الأمرِيكِيُّونَ مِن تَرتِيبِ أوضَاعِهم
بَعْدَ الحَرْبِ،
فِي مَرَابِعِ أوروبا الجَرِيحَة.
وبِطَلْعَتِهِ، التِي كانتْ تَكْفِي وَحْدَها
لإثَارةِ الزَّوابِعِ
فِي مَراقِصِ الخَمسِينِيَّات ،
..
وعندما أجرى الشاعر المقارنة بين الشرق والغرب ، اختار من الغرب الأمريكي الطرف الأول للمقارنة المغني "إلفيس بريسلي" ، وهو معروف بأنه أحد النجوم اللامعين في قمة مجدهم الفني ، وقد اشتهر بملك موسيقى "الروك اند رول" الذي بهر الفتيات والشباب ، ليس في أمريكا وحدها ، بل في بقاع كثيرة من العالم .
ومن المعروف أن "بريسلي" ولد في عام 1935 لأسرة متواضعة في ولاية مسيسبي الأمريكية ، وكانت تقيم في بيت فقير مكون من حجرتين . أي أنه يرمز للفنان الذي ينتمي لأصول بسيطة في المجتمع الأمريكي .
..
وعلى الجانب الآخر من منتصف الليل ، أي في بلادنا اختار الشاعر الطرف الثاني في المقارنة بين الشرق والغرب ، وهو المغني "عبد الحليم حافظ" الذي تربع على على عرش الغناء المصري لفترة طويلة . وقد نشأ حليم أيضاً فقيراً يتيماً بالمثل في ظروف اجتماعية صعبة وشبيهة بالظروف التي نشأ فيها "بريسلي" . وذلك لكي تكون مثارنته أكثر دقة . وإذا كان الشاعر قد نعت "بريسلي" بأنه كلمة السر الأمريكية ، فقد وصف |عبد الحليم" بأنه سر مصر الخالد
وقد كان "حليم" مثار إعجاب شباب وبنات مصر الشديد ، لأنه كان ينطق بصوت احتياجاتهم الإنسانية والعاطفية في أغانيه وفي أفلامه ، حتى أنه (نَبَتَتْ علَى طَرَفِ كُلِّ فِراشٍ فِي اللّيل، وِسَادةٌ خَالِيَة) . وتلك العبارة استخدم فيها الشاعر اسم الفيلم العاطفي الشهير لعبد الحليم .
الشباب كلهم : الفتيان والفتيات في مصر أحبوا هذا المطرب الذي يخاطب الأحاسيس العاطفية الحميمة ، حتى أن سُعاد الحُسَيْنِي ، وهي مثال واقعي أورده الشاعر في نصه (ويبدو أنها مثقفة من أصدقاء الشاعر) تعاني وتبذل كل جهدها بحثاً في المذياع عن أغنية "تُخُونُوه".
وفي الوقت نفسه كان "عبد الحليم" مغني الثورة الذي ضرب على أحر الأوتار الوطنية من خلال أغان مشهورة يحفظها كل لسان في مصر ، وهو المطرب الذي غنّى للفلاحين ، وللعمال ، ومنها أغنية شهيرة هي "خلى توكالك على مولاك" .
ويظل الشاعر يواصل المقارنة المثيرة الدالة ، فالمغنيان على سبيل المثال ساعدا البسطاء ، بشكل أو بآخر : فـمن ناحية كان "بريسلى" هو الجِسْرَ الذِي عَبَرَ عَلَيهِ السُّودُ فِيما بَعْدُ، إلَى المَكتَبِ البَيضَاويّْ ، ومن ناحية أخرى كان "عبد الحليم" هو الذي يناصر العمال والفلاحين والفقراء . وكما يرى الشاعر فإن المغنيين الغربي والمصري لم يكونا سوى طريقين لأهداف أخرى فـ"بريسلى" استخدم لغزو أوربا والعالم ، وعبد الحليم كان طريقاً لفخ العشاق المحدثين في مصر .
وفي نهاية النص يتكرر السؤال البليغ الذي كان قد ورد في بداية القصيدة «أينَ تَذهَبُ الأيَّامُ يا أمِّي؟» ، وهو سؤال مدهش ، يبدو طفولياً من ناحية ، ومن ناحية ثانية يبدوا مستجيراً يبحث عن أي ملاذ في عالم ضائع صار مرتعاً لتنافس الصراعات والأطماع والبحث عن المكاسب والمغانم ـ ومن ناحية ثالثة يشير بشكل مباشر إلى المعنى الفلسفي الكبير حول مسألة التغيرات التي تتصل بشكل مطرد في الحياة . ومن نلحية رابعة ، يعبر عن مكر الشاعر الفني البليغ ، وفكرته الهائلة الصادمة الأليمة : أنه بعد كل هذا النجاح الهائل والضجيج الكبير الذي أحدثه المغنيان ، وبعد كل هذه الإنجازات التي تحققت في المجتمعين الشرقي والغربي ، فالمسألة اختلفت ، وكأنَّ شَيْئًا لم يَكُن لأن المجتمعات الإنسانية دائمة التطور والتجدد والتغير ، ولايبقى أي وضع على حاله سواء في الغرب أو في الشرق . وفي السطرين الأخيرين نقرأ العبارة الساخرة التي تؤكد المعنى ، والتي كتبها الشاعر بالتشكيل رفعاً وكسرا ، ليعطيها أكبر طاقة سخرية ممكنة :

(رَوْكٌ أندِ رَوْلٌ) يا حَلِيم،
ثُمَّ (رَوْلٌ أندِ رَوْكْ).

 

تعليق عبر الفيس بوك