فلسطين في أدب سميرة عزام (2 - 5)


أ.د/ يوسف حطيني – أديب وناقد وأكاديمي فلسطيني – جامعة الإمارات


ثانياً – رعشة الأسى


وشيـئاً فشيئاً التفت الأدباء الفلسطينيون الذين صوروا ماضيهم الجميل بكثير من الرومانسية ، إلى واقعهم وكانت سميرة عزام منهم فهي لم ترَ فلسطين في سنوات الهجرة الأولى إلا حنيناً للحرية ولأشجار البرتقال ، وللأرض الخيرة وللسماء والشمس المطهرة فبـلدها يكمن في أنشودة طفل سعيد ، واستراحة قصيرة ، وعودة إلى البيت عند الغـروب ، وحديث واعد عن غد مشرق ، يتسامر به زوج بعد عناء طويل . أجل، تلك هي حياة الفلسطيني قبل الهجرة ، وحين ترك أرضه فقد هذا كله ، فقد هذه النعمة التي لا تقدر والتي ترتبط على بساطتها بأعمق أسلاك عناصر الإنسانية في الإنسان، بهـذه البساطة ، وهذا العمق ، تصور سميرة عزام الجريمة التي ارتكبها العالم بحقـها (21) . وقد تجلت عناصر هذه الجريمة في الحرمان من اللقيا ، ومن الفرح ، ومن الهوية أيضاً . إنها جريمة ارتكبتها ( القوى المتحضرة ) بحق شعب أعزل ، ففصلت جسده عن روحه .. وثمة قصتان لسميرة عزام ، تبينان رعشة الأسى ، والغصة التي شعر بها الفلسطيني في سني غربته الأولى ، قبل أن يتحول أساه إلى غضب و مقاومة ، تلكما قصتا " زغاريد (22) و " عام آخر "(23) في قصة " زغاريد (24) " تروي سميرة عزام حكاية سلمى الصواف التي تتلقى،ضمن برنامج رسائل اللاجئين إلى ذويهم الرسالة الإذاعية التالية :
" مـن جميل عبد الله في بيروت إلى ولده كريم عبد الله ووالدته سلمى وأخته وداد في يافا ، أنا بخير كذلك خطيبتي ناديا .سنتزوج في الساعة الثالثة من بعد ظهر الثامن من أيـار في كنيسة " السيدة " ثم نسافر لأعمل في الكويت،مشتاقون طمنونا بواسطة الإذاعة " ( 25 ) وعلى الرغم من أن بيروت ليست في السند أو الهند ، فإن سلمى الصواف لا تستطيع أن تذوق فرحة العمر ، ولا تقدر مع زوجها أن يفعلا شيئاً لعرس ابنهما سوى " من كريم عبد الله وزوجته سلمى وابنته وداد وزوجها . . نبارك زواجك ، وندعو لك بالخير " ( 26 ) . غير أن الأم المحرومة من الفرح تحاول أن تنقل العرس ، بخيالها ، إلى بيتها في يافا ، إلى كنيسة الخضر ، بكل تفاصيله ، ولكنها حين تدرك عبث كل هذا تملأ البيت بصوت زغاريدها المخنوقة .
إن النكبة هنا تجسدت في أقسى تجلياتها الإنسانية فالأم والأب ممنوعان من الفرح بفعل الهزيمـة ، ممنوعان حتى من تلقي خبر زواج جميل إلا عن طريق الإذاعة ، حيث تغدو العلبـة الخشبية مستودعاً لأشواق اللاجئين . إنها ليست مأساة الأم وحدها ، بل هي مأساة كل الأمهات ، مأساة يافا التي يتعاظم شوقها " لأن ترى عرساً لأحد أبنائها ، بعد أن صارت أعْراس الناس " كجنازات الصعاليك " ( 37 ) .
إن الألم هنا ألم وطني وإنساني في آن ، فحيفا تشتاق عرساً حقيقياً ، يقيمه جميع الأهل ، ولا يمكن بالطبع أن يقوم هذا العرس إلا باجتماعهم في يافا بالذات بعد أن شطرتهم الغربة . . لأن يافا ذاتها هي جزء من الفرح ، في زمن صارت فيه جباه الناس موسومة بالأسى .إنها قصة إجهاض العواطف النبيلة من قبل المؤسسات" الحضارية "التي تحكم العالم ،وتخطط للشعوب الفقيرة مصائرها .هي قصة عواطف قبل كل شيء .تملأ المحاجر بالدموع .ومع ذلك فإن الـدكتور هاشم ياغي يرى أن هذه القصة " تكاد تخلو من الانفعال العاطفي الحـار " ( 28 ) ، على الرغم من أن العواطف هي نواة القصة المركزية ، وهي التي تدفع الأم إلى حالة التوحد مع الأمكنة ، مما يجعلها تضيء الشموع في بيتها وتزغرد وسط دموعها لفرح حقيقي تنتظر أن يتم في يومٍ من الأيام .
" عام آخر " ( 29 ) مثال ثانٍ على المأساة الفلسطينية التي تورط العالم فيها . إنها قصة أم عبـود ، المرأة المسنة التي تقطع الأميال من سورية إلى الأردن إلى القدس ، حيث بوابة اللقاء والدموع ، بوابة مندلبوم ، لتلتقي ابنتها ماري التي ستأتي من الناصرة لملاقاتها هناك ، ولكن مرض زوج ابنتها ، يمنع ابنتها من المجيء ، فلا يبقى للعجوز إلا الحسرة والإصرار على العودة إلى البوابة ، في العام القادم ، ولو جاءت زاحفة على قدميها .
إن الحديث الساذج الذي تخوض به العجوز المكرارة مع السائق يدل دلالة بينة على الحزن الفلسطيني ، بواحد من أكثر أشكاله بؤساً : فالأم ممنوعة من زيارة ابنتها في الناصرة وهي تسمع أخبارها كالقصة السابقة بواسطة الإذاعة : " عرفنا من الإذاعة أن مـاري ولدت ، أنا ما سمعت الرسالة ، سمعتها صديقة فأخبرتني " ( 30 ) . . فأية فاجعة تلك التي لا تعرف فيها الأفراح والأتراح إلا بهذه الوسيلة ؟ ! .
إن هذه القصة هي باختصار " صفعة على وجه العالم لأنها في نواتها المركزية ليست سوى سرد واقعي لإجهاض الشوق الأصيل ، فخلاصة ما تقوله أن اللؤم الممنهج والمخطط والمتجّسم في مؤسسات لا وظيفة لها سوى ترميد الشعور النبيل ( . . . ) إنها تراجيديا بغير دماء ( . . . ) وما هي بمأساة إلا لأنها تدمير للروح البشري " ( 31 ) .
إن يوسف اليوسف الذي قال هذا الكلام عن القصة ، لامس جوهرها ، ولكنه أغفل تلميحات في القصة تدعو إلى المقاومة ، وإن كانت هذه التلميحات لا تجعل من هذه القصـة قصة غاضبة ومقاومة . وحسبنا هنا أن نشير إلى أن إصرار العجوز على العودة إلى بوابة مندلبوم ما دامت حية ، هو إرهاص بغضب أو بفعل ثوري .
من هنا يغدو كلام كاتيانا بيسللي التي رأت أن هدف القصة هو استجلاب بسمة حزينة إلى وجه القارئ ( 32 ) وكلام الدكتور فخري طملية عن اقتصار هدف القصة على إثارة الحزن والإشفاق ( 33 ) فيهما تسرع كثير . وسطحية ، خاصة في بحث الدكتور طملية الذي قدم حججاً لا تستطيع مواجهة النقد ( 34 ) . إلى ذلك فان قصة العجوز مليئة بالرموز ، فبالإضافة إلى الرموز الوطنية ، هناك رموز مسيحية أشار إليها يوسف اليوسـف : " كان في ميسور الكاتبة أن تجعل الابنة متزوجة في يافا ، ولكنها عمدت إلى جعل ماري تسكن الناصرة لتذكر بمريم العذراء والدة السيد المسيح " ( 35 ) .
وفي إشارة أخرى يقول " إن ماري لا تأتي بسبب مرض زوجها مما يوحي ، ولو من بعيد ، بأن العذراء منهمكة بآلام يسوع " ( 36 ) وهذا يعني أن الباقين تحت ضغط القمع الصهيوني إنما يخوضون معركة وجودهم ضد عدوهم وضد جلادهم .
وعـلى كل حال فإن استعمال هذه الصور المسيحية ، في بعدها الرمزي يمنح هذه القصة بعداً وطنياً إضافياً ، في وطن كان مهداً للسلام الذي يمثله السيد المسيح .
وثمة إشارات مختلفة إلى ذلك الأسى الذي يعانيه الفلسطيني ، في قصص مختلفة . ولكن هذه الإشارات لا تجعل مضمون القصص كلها مرصوداً لتصوير الأسى والحزن .
فـفي قصة " في الطريق إلى برك سليمان ( 37 ) حيث يترك الأب والأم ( بتّير ) ويهربان بطفلهما من جحيم الموت ، يفقد الأب ( حَسَنْ ) بيته وأصدقاءه ووضعه الاجتماعي وقريته وابنه .
وفـي نهاية القصة يفقد روحه أيضاً ، حيث تنهزم الحياة إزاء سطوة الجحيم والنار ، وإن القبر الذي وضع فيه حسن ابنه الصغير عمر الذي أصيب برصاصة صبغت بطانيته باللون الأحمر ، لم يكن لعُمَر وحده ، بل للعرب جميعاً ، يقول مطاع صفدي :
( أثناء الركض تستقر رصاصة ما ، في بقعةٍ ما . . وعند تجاوز الخطر يكون الطفل قد مات بين يدي أبيه . . وأخيراً : النازحان أمام قبر الطفل الذي انتقل من النوم إلى الموت . . من سرير في بيت حجره أبيض ، إلى حضن أبيه ، إلى حضنه التراب . . الجميع أمام القبر ، العرب كلهم ) ( 38 ) ولكن الغريب أن ترى الدكتورة نادرة السراج في القصة انتصاراً لإرادة الحياة ( 39 ) على الرغم من موت كل أعراف الحياة ، وموت المستقبل ( الطفل ) وفق المنظور الفكري القاتم الذي كان سائداً بُعيد النكبة .
وهناك إشارات أخرى في قصة " فلسطيني " ( 40 ) تحلل جزءاً من عناصر المأساة الفلسطينية التي يواجهها الفلسطيني فتكون هذه العناصر حقداً وخداعاً وشتماً من الآخرين دون سبب . إذ تغدو ظروف الفلسطينيين في الغربة مجالاً للتندر لدى الآخرين ، مما يضطره إلى البحث عن هوية بديلة . حيث يتلبنن دون أن يتخلص من( عار )فلسطينيته الذي يلاحقه .
إن الفلسطينـي هنا يلعن ظروفه التي جعلت الآخرين يضحكون لمأساته ، يذكر مرةً أنه " حين مات أبوه الذي يعيش في بيت أخيه في عمان ، أبرق لهم يقول : ( أخرّوه أسبوعاً أو ادفنوه ) ، وكانت تلك أتعس نكتة استمع إليها موظف البرقيات ضاحكاً " ( 41 ) .
إن ( عار ) الفلسطيني أيضاً يسلبه اسمه ، فبطل القصة لا يعرف له اسم في الدكاكين المجاورة سوى الفلسطيني، " بهذا ينادونه، ويعرفونه ،ويشتمونه إذا اقتضى الأمر " ( 42 )
وكان من الممكن أن توضع هذه القصة في إطار القصص التي ترتعش لها القلوب بالأسى واللوعة على ظروف الفلسطيني لولا الإرهاص بالفعل الثوري الذي انتهت إليه القصة ، مما يخرجها إلى غرضٍ آخر .
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
هوامش
 (21) إدريس ، عايدة : سميرة عزام والنكبة ، مجلة الآداب ، بيروت ، كانون الثاني 1968ص 26.
(22) عزام ، سميرة : الظل الكبير .ص ص 47 – 54 .
( 23) المصدر نفسه ، ص ص 67 – 77 .
( 24) نفسه ، ص ص 47 – 54 .
(25) نفسه ص 49 .
( 26) نفسه ، ص 49 .
( 27) نفسه ، ص 52 .
( 28) ياغي ، د. هاشم : القصة القصيرة في فلسطين والأردن ( 1850 – 1965 ) ، ص 184 .
( 29 ) عزام ، سميرة : الظل الكبير ص 67 – 77 .
( 30 ) عزام ، سميرة : الظل الكبير ص 71 .
( 31 ) اليوسف ، يوسف سامي:الشخصية والقيمة والأسلوب ، دراسة في أدب سميرة عزام ، مرجع سابق ، ص 61.
Piselly ، Kathyana : Samera Azzame : Auther’s Works And vsion p.97
( 33 ) السرساوي ، أحمد : في الذكرى الستين لميلادها والعشرين لرحيلها : سميرة عزام أميرة القصة القصيرة الفلسطينية ) – مجلة الحرية نيقوسيا – العدد 228 _ ( 1303 ) ص 45 .
(34)في معرض الرد على اتهامات الدكتور طملية تمكن مراجعة :
ـ المرجع السابق ، ص 45 .
( 35 ) اليوسف ، يوسف سامي : الشخصية والقيمة والأسلوب ، دراسة في أدب سميرة عزام ، ص 60 .
( 36 ) نفسه ، ص ص 61 – 62 .
( 37 ) عزام ، سمير : وقصص أخرى ص ص 23 – 33 .
( 38 ) صفدي ، مطاع : في الطريق إلى برك سليمان ، مجلة الآداب ، بيروت العدد 10 ، تشرين الأول 1957 .
( 39 ) السراج ، د. نادرة جميل : سميرة عزام في ذكراها الخامسة ، دراسة في فنها القصصي ، مرجع سابق ص 76 .
( 40 ) عزام ، سميرة : الساعة والإنسان ص ص 83 – 93 .
( 41 ) نفسه ، ص 89 .
( 42 ) نفسه ، ص 86 .

 

تعليق عبر الفيس بوك