فلسطين في أدب سميرة عزام(1 - 5)


أ.د/ يوسف حطيني – أديب وناقد أكاديمي فلسطيني – جامعة الإمارات


نجحت سميرة عزام، خلال حياتها القصيرة (1927-1967)،في معايشة أبعاد النكبة الفلسطينية معايشة يومية، من خلال اتصـالاتها المستمرة باللاجئين الفلسطينيين وعدم اكتفائها بتجربتها في التيه والتشرد ، على الرغم من أنها كانت تجربة مريرة وقاسية .
ومع خروج الكاتبة من بلدها ، مع مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين هجروا على مرأى ومسمع من العالم أجمع ، حملت مثلما حمل غيرها غربتها ، وطافت بها من مكان إلى مكان ، فاستحالت هذه الغربة حنيناً لذكريات ، وإصـراراً وأملاً على العودة إلى وطن الشمس والحرية . ولا يخفى على قارئ قصص سميرة عزام أن هذه الكاتبة تتعاطف مع شخصياتها إلى أبعد الحدود ، وذلك عائد بالطبع إلى التجربة المشتركة في الغربة والحنين والأمل ، والبحث عن خلاص ، رأته سميرة في أن تختط طريقاً لها في المعركة الوطنيـة والقومية ،من خلال كتابتها الملتزمة ، بوصفها كاتبة تدرك دور الأدب (1)، ومن خلال ممارستها تجربة العمل الوطني المنظم (2) وتأكيدها من خلال هذين الدورين أن الطريق إلى فلسطين شاق وطويل ويحتاج إلى كثير من التضحيات . إن ما كتبته سميرة عزام ، فيما يتعلق بالموضوع الوطني ، كان مقتصراً في البداية على التفجع والندب لمصير الفلسطينيين ، مع وجود إشارات وتلميحات واستثارات للمقاومة ، ومع انطلاقة الأدب الثوري انطلقت سميرة عزام بقصصها نحو المقاومة الأصلب والرؤية الأوضح فإذا كان ثمة ابتعاد عن الأدب الثوري بعد النكبة ، فإن ذلك لا يعود إلى تقصير سميرة بقدر ما يعود إلى طبيعة المرحلة عامة . فقد انتقل الفلسطينيون تدريجياً من تصوير الفراق والحزن إلى الغضب والمقاومة (3) ولأن سميرة عاشت مع هؤلاء وتنفست هواءهم ، وقصر وعيها – آنذاك ، كما قصر وعيهم ، فقد جاءت قصصها ، وفقاً لهذه الأجواء ، مقسمة إلى المراحل المتداخلة التالية ، التي هي مراحل زمنية وموضوعية ( متعلقة بالموضوع ) في أن معاً :
1 – الماضي
2 – رعشة الأسى
3 – سورة الغضب
4 – المقاومة
وفـي كل هذه المراحل ثمة أمل يحدو سميرة ، وأبطال قصصها ، على العودة إلى البيادر و البيارات والبيوت التي ما يزال بعض الفلسطينين يحتفظون بمفاتيحها .
أولاً – الماضي :
كـان جرح الكبرياء لا يزال حديثاً حين راح الفلسطينيون يحنون في الداخل والخارج إلى الماضي . فبينما كان فلسطينيو الخارج يحنون إلى أرضهم التي هجروا منها ، فإن فلسطينيـي الداخل راحو يحنون للقيا إخوتهم الذين في الخارج ، ويحنون أيضاً إلى الفرح بعد أن فقد كل فرح معناه ، في غياب الكرامة الوطنية .
استطاعت سميرة أن تصور لنا في قصصها حنين أولئك جميعاً إلى ما مضى مكاناً وذكريات وعادات ورموزاً وطنية .
فالوطـن – المكان – الذي كان مرتع صبا سميرة نفسها كان يتجسد في أدبها ، شأنها في ذلك شأن أدباء المقاومة الفلسطينية ، فردوساً ضائعاً ، أو مضّيعاً بفعل تجار السياسة . إنها تصف الربيع والبيارة و البيت والديوان وشريط الهدنة الذي قسّم جسد فلسطين .
في قصــة (عـام آخر ) (4) تـحدث الحـاجة المـكرارة أم عبـود ، وهي في طريقهـا إلى ملاقـاة ابنتها عند بوابة مندلبوم ، السائق حديثاً فيه شجون الماضي وذكرياته حيث تحضر يافا / المكان/ بجزئياتها ، تقول أم عبود :
"كان بيتنا في (درج القلعة ) وكان لنا بيارة برتقال ثمرها لامع كالذهب ، موصوف بالحلاوة ، كنا من الاوادم (*) ، بيتنا (مضافة ) ، وزوجي مختاراً ....." (5)
إن البيت هنا ، في ذاكرة أم عبود ، وفي الذاكرة الجمعية الفلسطينية ليس بيتاً وحيداً ، فالاشتياق له هو شعور جمعي مشترك لأنه يرمز إلى كل البيوت ، كما ترمز البيارات إلى كل البيارات ،فيما ترمز يافا التي تحتوي درج القلعة إلى كل المدن الفلسطينية الأسيرة .
إنه الماضي ذاته الذي تصوره قصة "الحاج محمد باع حجته (6) " الماضي الذي يشي بالفخر والاعتزاز بالذات والطمأنينة ، حيث الديوان - قبل أن يأكله شريط الهدنة –ملتقى الرفاق يجتمعون فيه ليتشاوروا في الأمور المهمة المختلفة " (7) ، أما الآن فلم تبق لهم إلا الحسرة .
غير أن الغربة لم تكن غربة عن ذكريات الماضي فحسب ، ولكن عن الثقافة الشعبية أيضاً . بأعرافها المختلفة . فالحاجة أم عبود تتذكر ماضيها بتقاليده ، حين تحث سائق السيارة التي قادها في رحلتها المخفقة ، فتصف محتويات بيتها هناك :
"فراش كثير والخير من خيرك (....) وأواني النحاس كان جد عبود قد أحضرها من الشام ، فطارت الدار و البيارة و الفراش و النحاس (8) .
وفي قصة "زغاريد " (9) تحاول سلمى الصواف أن تنقل في خيالها ، عرس ابنها جميل من لبنـان إلى فلسطين ،بسبب عدم استطاعتها الذهاب إلى حضور عرسه هناك، وتظهر الصفعة التي يوجهها الوضع السياسي الجديد الناشيء إلى تقاليد الثقافة الشعبية الفلسطينية . تتساءل سلمى الصواف .
"ومن يا ترى من الحضور به حرص على العادة فلا ينسى أن يحمل إبرة و خيطاً يشد بها ثــوب العروس إلى بذلة العريس (10) ؟؟"
وحين تتساءل أيضاً في شبه ذهول : " تراهم يحتفلون بعرس جميل .... عرس وحيدها كما ينبغي للأعراس أن تكون ؟ فتمتلئ باحة الكنيسة بالحضور ، ويسخو أهل العرس بالملبّس يأكله الصغار و الكبار و يدعون للأهل بعمار الديار (11) .
لقد أدركت سميرة عزام حقاً أن هدف الاستيطان الصهيوني في فلسطين لم يكن موجهاً فقط ضد الأرض ، بل ضد الإنسان أيضاً ،وكان عليها ، لذلك أن ترفع راية ثقافة المواجهة ، ليغدو ماضيها الثقافي في حلبة الصراع أيضاً ، لأنه مستهدف بأشكاله كافة ، برموزه الوطنية ، و رموزه الدينية ، الإسلامية و المسيحية على حد سواء .
فالكاتبة تحشد كل رموزها الوطنية و الدينية في خدمة الثقافة المواجهة . فالحاج محمد يمتص دموعه " بطرف كوفيته (12) " التي غدت رمزا للإنسان الفلسطيني ، و سلمى الصواف تتساءل عن الكنيسة التي سيزف ابنها فيها ، فتقول :
" أهي كبيرة ككنيسة الخضر ، وقورة تنتصب فيها بجلال ، تنعقد في سمائها روائح البخور و الشمع المحروق مع التبتل و الابتهالات (13) " .
على أن عزام التي تصف كنيسة الخضر ، بأسلوب حنيني واضح ، لا يفوتها – و هي المسيحية دينا – أن تحن للشعائر الإسلامية ، مادامت الرموز المسيحية و الإسلامية ، قد غدت في نظرها رموزا وطنية في الاعتبار الأول .
ففي قصة " الحاج محمد باع حجته (14) " يقول سلمان أبو عاكف لنفسه : " شد كوفيتك (15) " ليخبر قومه أن الحاج قد باع حجاته السبع ثم يتذكر أيام زمان : “ سبع حجات ، بل سبعة أعراس “. ان كنت تذكر يا حاج ، قامت فيها القرية و قعدت ، و مدت لـك عشرات من حبال الزينة ، و ساقت عشرات الخراف تمشي بين يديك ملوية الأعناق قبل أن تعتلي تلال الأرز على السماط ، المبسوط لكل رائح و غاد (16) " .
و ثمة رموز أخرى لا تقل أهمية في الثقافة الشعبية ، هذه الرموز تبدو محمولة على استعمال الأمثال و المحفوظات الشعبية الفلسطينية التي تظهر في قصص سميرة عزام تجسيدا للوجدان الجمعي الفلسطيني ، و قصة عام آخر التي نعرضها هنا – مثالا – محشودة بالأمثال و المرددات الشعبية ، فالحاجة أم عبود تقول :
" ما أعز من الولد إلا ولد الولد (17) "
" نحن أحسن من غيرنا ، و غيرنا أحسن منا "(18)
" المال يعوض ، والدور تعود ، ما دام الرجال موجودين " (19) " وللظالمين يوم "(20) إنها حقاً كاتبة استخدمت الماضي ، ليس بوصفه مكاناً فحسب بل بوصفه وعاء للأعراف والثقافـة والتقاليد التي ينبغي أن تخوض معركة الثقافة أيضاً ، لتقاوم بذلك محاولة اقتلاع الثقافة الفلسطينية من جذورها ، هذا الاقتلاع الذي مارسه ، ويمارسـه، المحتلون الصهاينة حتى الآن .
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
هوامش
( 1 )  من الممكن النظر في : عزام ، سميرة : الأدب ودوره في معركة فلسطين ،مجلة الآداب ، بيروت ، العدد 3 ،آذار ، 1965 ،ص ص 8 – 10.
( 2 )  يذكر شفيق الحوت أن سميرة عزام كانت عضواً قيادياً في تنظيم عربي فلسطيني مناضل ، من الممكن مراجعة :
-الحوت ، شفيق : سميرة عزام المناضلة ، مجلة الآداب ، بيروت ، كانون الثاني، 1968 ، ص ص15 .
(3) piselle، Kathyana : samira azzam : auther’s works and vision. PP 95- 96.
(4 )  عزام سميرة : الظل الكبير، دار العودة، بيروت، ط2، 1982، وقد اعتمدت هذه الطبعة بالنسبة لكل مجموعات سميرة عزام.
( * )  الأوادم : تعني في العامية الفلسطينية أصحاب السمعة الطيّبة .
 ( 5 ) المصدر نفسه ، ص 72.
( 6 )  هذه القصة منشورة في : - أبو بكر ، وليد : أحزان في ربيع البرتقال دراسة في فن سميرة عزام القصصي ، مصدر سابق ، ص ص 88 – 95.
( 7 )  المصدر نفسه ، ص 89 .
( 8 )  عزام ، سميرة : الظل الكبير ص 72.
( 9 )  المصدر نفسه ، ص ص 47 – 54.
(10)  المصدر نفسه ، ص 53.
( 11 )  نفسه ، ص ص 52 – 53.
 ( 12 ) أبو بكـر ، وليـد : أحزان في ربيع البرتقال ، دراسة في فن سميرة عزام القصصي ، مصدر سابق ، ص 93 .
( 13 )  عزام ،سميرة : الظل الكبير ص 52
( 14 ) أبو بكر ، وليد : أحزان في ربيع البرتقال ،دراسة في فن سميرة ، عزام القصصي ، مصدر سابق ، ص 88 – 95
( 15 )  المصدر نفسه ، ص 89.
 ( 16 ) نفسه ، ص 89.
( 17 )  عزام ، سميرة : الظل الكبير ، ص 57 .
( 18 )  المصدر نفسه ، ص 74.
( 19 )  نفسه ، ص 74.
( 20 )  نفسه ، ص 74.

 

تعليق عبر الفيس بوك