العشق الفادح لدى "صاحب الشاهر*" والقصيدة التي لم تكتمل


جمال قيسي – فنان تشكيلي وناقد عراقي - بغداد


لا أملك إلا أن أقول شكراً للحياة التي منحتني بعض الأصدقاء، ومشاهدات ممتعة لأعمال فنية، وتمازج مع أرواح عظيمة؛ نعم بعض الناس ممن يرافقك الدرب في الطريق المعيش. يبررون لك كل المكابدات في مسيرة الحياة، ربما لم تلتقِ بهم يوماً ولكنك تتماهى مع عظيم  حكمتهم، مثلاً أنا لم ألتقِ بـ"فان جوخ"، ولكن مجرد نظري إلى أعماله  تختاض روحي وتشتعل مشاعري مع حركات خطوطه  حتى أشعر أن الحياة لا قيمة لها لو لم يرسم  لوحة سماء مرصعة بالنجوم،  وهكذا مع آخرين، عندما تسمع "القدر" لـ"بيتهوفن"، أو "حانة الأقدار" بصوت أم كلثوم، أو ما يفضي بك الوجدان، بعد جماع  روحي مع نص أدبي، ينقش على شغاف القلب. حتى يغدو قلبك كراس من نور، وعلى تباعد الخطوات في هذا الدرب عن عتبة شروعها  تكون المحمولات أشبه بالمكتبة، ولأنها من ومضات نورانية تكاد تكون أخف وزناً من الهواء، تختلق منها منطقة آمنة  تركن إليها في عسرة الحياة، شيء أكثر عمقاً من الحرية وبعيداً عن تعسف الآخرين، ولغط المسُفين، في هذه المنطقة التي لا تدرك إلا من صاحبها. هناك الشعلة الإلهية   أو الروح القدس كما يقول هنري ميللر لكن ليس كل واحد منا يرى هذه الشعلة، أما البعض هناك منهم من يرى وآخرون يتمسكون بهذه الشعلة المقدسة مثل المشعل، هم الأكثر حكمة وعبقرية وإبداعًا،  وصاحبي (صاحب الشاهر)  كاد أن يمسك الشعلة لولا أن غيَّبته الحياة باكراً  ليطوى في الذاكرة العراقية المثقوبة أصلاً ،،،
في صيف عام ١٩٨٣م، كُلفت بمأمورية  من قبل وحدتي العسكرية التي كان مقرها الخلفي في مدينة "الحلة" والحرب العراقية الإيرانية على أشدها ورغم أن المأمورية كانت إلى قطاع "البصرة وميسان" وهي من أخطر جبهات القتال إلا أن انتهاءها  يعني التمتع بإجازة، ربما تتخطى الأسبوع ببعض الأيام، وهي مكسب كبير حينها. وتقضي المأمورية أن أجري اختباراً لطلبة محو الأمية، لكوني  كنت معلم صف محو الأمية للجنود الذين هم وفق هذا التوصيف  وعلى حساب توزع  فصائل الوحدة في جبهات القتال كانت المدة المفترضة للمأمورية تمتد لعشرة أيام مضافاً لها الطريق؛ الأمر الذي يستوجب المبيت إحدى عشر ليلة اغلبها في قطاع البصرة. وعليه قدرت أن ذخيرتي من الكتب التي سوف تسري عني وتبدد هذا الزمن السقيم   الذي تولده أجواء القتال ومناخ الحرب. لا تقل عن ثلاثة كتب، ولأن  من ضمن رغباتي بعض العناوين. حشرت في حقيبتي  ثلاثا من الكتب المنتقاة، اكتشفت وأنا في مرآب ( النهضة = وهو المحطة التي تنقل فيها الحافلات المسافرين من بغداد إلى المحافظات الجنوبية وبالعكس) أن هذه الكتب هي من نسق واحد  كلها في الفلسفة، وتبادر إلى ذهني سؤال واحد، والطريق؟. هل بالإمكان قراءة كتاب فلسفي خلاله؟، بالتأكيد. سيكون الأمر مملاً  وسارعت إلى كشك لبيع الصحف والمجلات لعلي أجد ما يفي بالغرض، وأتذكر أني اشتريت بعض المجلات الدورية ووقع نظري على ديوان شعري بعنوان يشد إليه البصر،،، (أيها الوطن الشاعري)  فسارعت  بشرائه، وخلال الرحلة المملة  ذات اللون الخاكي، حاولت  قدر الإمكان الانفصام عن الأحاديث المتبادلة بين المسافرين وجميعهم من الجنود وهم يلتحقون إلى جبهات القتال  بعد قضاء الإجازة الدورية حيث تكون الحالة النفسية بأعلى درجات الاضطراب  والفزع والحسرة، هكذا هو الحال بالنسبة للمقبل على الموت، كان حال الجندي العراقي في تلك الفترة أثناء الالتحاق أشبه بلعبة الروليت الروسية. ولكنها على شكل دوري ولزمن غير محدد  وليس  كل مرة تسلم الجرة، كان الإصغاء لمثل هذه الأحاديث أشبه بالجلوس في (تنور الزيات) **،تكافح  النوم من شدة التعب أو حتى الغفوة العابرة هروبًا من الكوابيس المفزعة واليقظة وحدها هي التي تحميك من مسامير التنور بالانفصام عن ماحولك، تبقى تجول وتسبح وتسرح نظرك في جنتك الكامنة في أعماقك  إنها المنطقة الآمنة، ولكن في أحايين كثيرة لا يمكنك التسلل إليها إلا برفقة. وخير رفقة هي كتاب ومؤلفه، وهو شخص افتراضي خفيف الظل يصلح للرفقة  في تلك المنطقة، لأنك ستتعامل مع جانب منتخب منه ألا وهي الأفكار  ولا يتطلب منك الأمر  ضيافة  ويمكنك أن تصرفه متى ما أصبح عبئاً. في خضم هذه الهلوسة، وعلى تهاوي  الأمتار  الإسفلتية؛  فتحت ديوان الشعر الصغير والمتواضع الطبع على الصفحة ١٥ بلا تعين، وإذا بالكلمات تأخذ بتلابيبي هنالك شيء ما دائماً  في الفن  ينشط دورتك الدموية  نوع من السحر والانتشاء، وأول ما قرأت:
بالتوهج. والشجر المستفزّ
فما أجمل الملتقى
طائران  تغرب لون الظهيرة فينا،،
ولم نحترق ،،،،،
كأني أودعت إلى عالم آخر، وأعدت القراءة مرة تلو المرة  حتى أحسست أني وسط جوقة سماوية تردد موشحاً لم أفلح بتصنيفه  لكن أصواتها ملأت رأسي  حتى شبه لي أن جميع من حولي في المركبة يرددون  موشح صاحب الشاهر؛ موشح (أيها الأسمر الشاعري)، لم أشأ  أن أخرج  من هذا الحشد العجائبي  سمفونية تخليقية. كأني في  عوالم لم أعرفها، رغم أنها مألوفة لدي،إلا أنها موشحات بداية الخلق السومري، الشمس والغرين  والمطر والطيور النزقة. وعوالم تتضارب في تشيؤها هكذا الحال استمر معي  في كل مرة اقرأ (أيها الوطن الشاعري)، وسأقرأها معكم ومن ثم أعود إلى التحليل النقدي، وهو وجهة نظر خاصة بي، وربما يختلف معي البعض،،،
"  لحظة  لو سمحت
لحظة لو هبطت بنار القصيدة
مستنكراً من يمس رطوبة كفيك
،،،،، من!
لو هبطت إلي بهذا الجناح الجميل
يلذ العذاب إذاً
ويلذ الذي كان زميل الحجارة
والنهر والياسمين
أراه هنا
يُجلس الشمس في راحتيه
كعصفورة من  حنين السواقي
وعصفورة من فرح !
" أيها الأسمر الشاعري
لماذا توهجت في الدفتر المدرسي"
لماذا توهجت في أنا المبتلى
ما سقتني عيونك غير الصدى الأسمر الشاعري
فيا للطفولة  من طعنة  تتغنى
تعال ،،، نسأل ورود الكآبة
فيا للطفولة  من طعنة  تتغنى
تعال،،، نسأل ورود الكآبة:
كيف استطاب. السرير لمن أشعل
الدفءَ  فيه
تبدو القصيدة بجملها الخبرية، أنها تفتقد لشيئين أساسين؛ الصورة المباشرة  أي الوعي في تمثله أن اللغة التي نستخدمها في إطلاق الأسماء والصفات؛ هي لغة الوعي واليقظة، وهي التي يتفنن الشاعر فيها إبداعيا بخلق الصور، ولكن شاعرنا يشق طَرِيقه  إلى منطقة وعي  جديدة  بعيداً عن الصياغة التقريرية المباشرة والدلالات المنطقية. فهو يستخدم المجاز في الصورة، وعلى ما أظن أنها قدرة إبداعية كبيرة.
أما الشيء الثاني المفتقد أنه ليس هناك شيء يريد أن يقوله الشاعر، أو ربما أنه لم يتوصل له  أو ما يسميه الشعراء بالقفلة. وأنا حسب رأيي المتواضع أظن أن الشاعر وهو من جيل سبعينيات القرن العشرين متأثر بمدرسة العبث التي تترك النهايات على شكل مجاهيل معبرة عن قلق الشخصية المعاصرة غير المستقلة.
ولنأخذ الفصل المسرحي الواحد لصمويل بيكيت "في انتظار غودو" وسألنا ماهي النهاية؟ طبعا: لا شيء أو مثلاً "القلعة" لكافكا او "المحكمة"  تنتهي بك الأمور إلى اللاشيء، وعلى حساباتي أنا ربما كان صاحب الشاهر يحاول أن يطبق ذلك الأمر على مشروعه الشعري. وشعره مترابط  من خلال التأويل على غير المألوف، وكثافة موغلة الغموض حسب رأي احد النقاد.
أنا أرى أن هذه التجربة فريدة من نوعها، ولو كان صاحب الشاهر قد عاش لفترة أطول  لرسخ  أسلوبه  وعمق تجربته.
---------------
* صاحب جابر الشاهر،، من مواليد كربلاء توفي عام ١٩٨٢م أثناء التحاقه إلى جبهات القتال، في الحرب العراقية الإيرانية.
** محمد بن عبد الملك الزيات وزير الخليفة العباسي المعتصم والواثق،حتى سنة ٢٣٢ هجرية، عرف بعلمه وأدبه، ولكنه كان شديد القسوة مع خصومه ولم يعرف قلبه الرحمة، وابتكر تنور من الحديد أشبه بالكهف بمسامير مدببة وحادة في داخله، وكان يضع خصومه داخل التنور بشكل مقفل، وإذا نام الشخص داخله من شدة الإعياء وغزته المسامير، وأحياناً، يسخنه مما يضطر المسكين بداخله إلى الاتكاء على المسامير، وهكذا الحال حتى يموت، وقد قتل الزيات بتنوره في عهد الخليفة المتوكل.

 

تعليق عبر الفيس بوك