المثقفون الخونة وضمور الوظيفة الشعرية


جمال قيسي – ناقد وفنان تشكيلي - بغداد

للشعر العربي أنساق واضحة المعالم من الناحية الوظيفية، فالنسق الموسيقي الذي تنطوي عليه القصيدة على شكل نظام موسيقي، ونسق الكفاءة اللغوية؛ وهي الوظيفة التي من خلالها يتم تأشير المفردات المعيارية اللغوية، أو التنوعات البلاغية،ذات البعد الصوري، ثم نسق منظومة الرموز، وهي العملية التي يتم خلالها توظيف الرموز التاريخية والأسطورية وكل ما يمت بصلة لثقافة الجماعة، وهي العملية الإبداعية للشاعر في إغناء هذه المنظومة من خلال المحاكاة ليولد شبكة مفهومية،أو قاموس دلالة.
مما تقدم نخلص إلى أن خطاب الشعر هو نوع من الوعي المكثف والهادف الوعي الذي يتماهى مع عملية الإنتاج، أو التمثل.
ما الذي حدث؟ ليفقد الشعر أهميته كخطاب ضروري محايث لعملية الإنتاج:
لقد حدث أولاً، إقصاء  النسق الموسيقي من خطاب الشعر جراء عمليات التحديث، تحت يافطة الشعر الحر  والقصيدة النثرية، إلى آخر التجارب التحديثية المفزعة، مثل مشروع القصيدة (النانو)، أو الومضة.
وثانياً الإغراق في شبكة هوامية للمفاهيم الرمزية، من خلال التلاعب والتنكيل بالمنظومات القيمية، أي بمعنى إقصاء،الهوية.
وثالثاً تمّ إقصاء الكفاءة اللغوية، حتى وصل الحال  في إحدى التجارب الشعرية (تجربة أسعد الجبوري) إلى اعتبار قصيدة النانو هي عملية تخلص من أعباء اللغة!!
ولا أعرف إلى أين يُراد الوصول  بِنَا بهذا الهراء والتلفيق، وهل من الممكن اعتبار نظم كلمات لا تمتلك نسقاً موسيقياً، أو كفاءة لغوية، أو رمزية، شعراً؟!
إن مشروع ما يسمى بالقصيدة النانو التي لا تتجاوز  الثلاث كلمات،هو إهدار للقيمة  النوعية وتجديف خارج منطقة الوعي ونسف فينومينولوجي، ففي لقاء صحفي يصرح أسعد الجبوري، بأن الرواية  تعيش على فتات الشعر، ولا أعرف بمشروعه هل أبقى فتاتاً، يصلح لشيء!!
وإذا كانت القصيدة وفق هذا المشروع تتكون من ثلاث كلمات، عليه أفترض أن أي تطوير لاحق سيؤدي إلى أن تكون القصيدة من كلمتين، أو ربما كلمة واحدة، ربما الجملة الخبرية عبءعلى اللغة، وأنا أتصور أن قصيدة المستقبل وفق هذه الآلية، والسياق هي عبارة عن ثقب أسود يمتص كل قيمة لغوية، ربما ستكون هناك القصيدة المغيبة، والمضمرة في ذات الشاعر، وعليك كمتلقي، أن تستبطن نوايا الشاعر لتعرف الكلمات. هل هناك خواء أكثر من هذا؟!
تعود بي الذاكرة إلى قصة أعتقد أن أغلبنا قد مرت عليه في إحدى مراحل الدراسة عن الملك ألذي أراد بدلة مميزة وتبنى إنجازها  اثنان من الأفاقين من الذين لايمتلكون أي خبرة في الخياطة وعند الموعدأالبسوا الملك البدلة (اللاشيء) وسار عارياً بين مواطنيه، إلى آخر القصة، ومشروع القصيدة النانو لايختلف عن هذه البدلة!!
فإننا إذا جردنا القصيدة من كفاءة اللغة والشبكة المفهومية للمنظومة الرمزية، بالإضافة إلى الموسيقى المهدورة سلفاً، ماذا يبقى لدينا، غير الخواء.
إن هذه العملية والفعالية الخاوية من أي مضمون هي تركيز على حالة الاغتراب المضاد للإنتاج؛ بل هي جزء من فوضى الإنتاج حسب ماركس، والإنتاج هنا ليس بالضرورة (نتاج) يدوي، أو مادي متشيء.
إن الرأسمالية  في قمة نشاطها، تحت بند العولمة، تسعى كما هو حالها دائماً، إلى إنتاج سلع غير ضرورية، يرافقها تبني وتعزيز ثقافة استهلاكية لهذه السلع، في سبيل تحقيق فائض قيمة، مجرد، ألا وهو المال وسلب الثروات المادية، وما يرافقها من تغيّر قيمي للإنسانية، وخلال هذا الزخم الاستغلالي، تسعى إلى عكس وقلب منظومات القيم، وكل هذا يتم على يد المثقفين الخونة.

 

تعليق عبر الفيس بوك