إيمان التصديق وإيمان التطبيق


محمد عبد العظيم العجمي – مصر


حينما تتعاطى النفوس مع المناهج (نظريا)، وتؤمن بها، تجد حالة من الانفعال والحماس والاندفاع لما تؤمن به، تريد أن تسارع لتغيير واقع الحياة بما علمت، وأن تبادر إلى نسف ما هي عليه من واقع قد عفى عليه الزمن، وتتابعت عليه السنون، ولم يعد يصلح أن يعاش أو يستمر، لكن الهوة سحيقة بين الإيمان بالفكرة وتطبيق المنهج، وبين أن تضعها حيز التنفيذ ، بين أن تنظر لأمر وتقتنع به ، وأن يداهمك وقعه ويسقط عليك فلا تدري أين عقلك ، ولا تعي للحدث من حولك ، ولاتتمالك جمع أوصال نفسك المقطعة الممزقة ، ولا روحك المبعثرة ، إلا أن يكون برد السكينة الذي يحف بعض المخبتين من البشر فيمطر نفوسهم بوابل الرضا وبرد الطمأنينة.
فارق كبير بين النفوس في حالة التنظير والتحبير، وبين التفعيل والإسقاط على واقع الحياة، حين تداهمها الأفكار وتراودها العبارات وتدغدغ عواطفها المواقف والأحداث من حولها، فتفيض بسيل الكلام، ينبض بالشعر والنثر والنظم، وتسيل منه (على الورق) جداول وظلال، تتدفق منه العبارات والفكر تحرك البشر والشجر والحجر، فما أسهل إيمان التصديق ، وما أصعب إيمان التحقيق ، ولو كانت الحياة تكتفي منا بهذا الإيمان الذي نعلنه ونرسمه ليل نهار، تلهج به حناجرنا وتصدع به خطبنا، وتلتهب به حماسة أفئدتنا، لو كانت الحياة تكتفي منا بهذا الإعلان البسيط الغير مكلّف، لكانت أجمل ما يعاش، وأحلى ما يقتنى، وكنا أحرص ما يكون عليها، نألفها وتألفنا، نعشقها وتعشقنا، لا يفارق أحدنا الآخر إلا بشوق أن يعود إليه، ولكن هذا التسطير والتدوين أبعد ما يكون عن الواقع والحقيقة، وهو محض افتراض وخيال في مدار المستحيل، فلا يكون هذا العناق إلا ويتلوه الفراق، ولا المعاشرة حتى تكون المغادرة، ولا الألفة حتى تكون الفرقة، ولا الصحبة حتى تكون الوحشة والتنكر والوجه الكليح، وهكذا دائما تكون، كما يقول طرفة :
أري العيش كنزا ناقصا كل ليـــلة     وما تنقص الأيام والدهر ينفـــــــد
لعمرك إن الموت ما أخطـــأ الفتى     لكالطول المـــرخى وثنياه باليـــد
وكما يقول غيره :
وما المرء إلا راكب ظهر عمره       على ســـــفر يفنيه باليوم والشهر
يبيــــت ويضحي كل يوم وليلة         بعيدأ من الدنيا قـــريبـأ من القبر
لا تصفو الحياة إلا مع الكدر، ولا تحلو إلا مع المرارة، ولا تسكن إلا مع الفواجع والنوازل، ولا تتركنا حتى تعتصر نفوسنا عصراً فتميز منها الخبيث من الطيب، تخطف فلذات الأكباد وحبات القلوب ، وتبدد الأموال التي نجمعها مع عرق السنين، وتفني زهر الشباب، وتفرط عقد العمر، وتذهب بالأحبة ، وتطيل ليل الغربة ، لتجلو خبر أرواحنا (في سجين أو في عليين)، وهنا يكون فقط للجزاء قيمة ودرجة لا يبلغها إلا من بلغ من واقع الاختبار درجة التصديق العمليّ والتحقيق الفعليّ، فما أسهل العبارات حين نرسمها، وما أجرى الكلمات على الألسنة حين نطلقها، ولكن للمشيئة المطلقة مراد منا غير الذي نريد ، وكتاب علينا لا بد أن نبلوه حتى تمحص النفوس ويبين الدّعيّ من الشجيّ ..
وكل يدعون غــــــــــــرام ليــــــــلى      وليلى لا تقــــــر لهــــــــــم بذاكـــا
إذا اشتبكت دموع في خـــــــــــــدود       تبين من بكى ممن تبــــــــــــــاكى
إنه الصراع بين الإنسان والحياة قديم العهد لا ينتهي إلا بنهايتها ، يحاول الإنسان أن يروضها ويطوع أمرها ليبلغ منها مبلغ الخلود وما هو ببالغه، وهذا ما تجلى في أول حادثة بين آدم والشيطان في الجنة ، حين زين له الخلود حتى يأكل من الشجرة ، ويقع في الغفلة، ويقدم على المعصية، ثم تصير الغفلة عهدا لذريته من بعده، ويصبح حب الخلود جبلة يسعى لها البشر جميعهم، لكن الحياة تعلن لهم ليل نهار، في كل صحو ومطر، وشهيق وزفير، وغدوة وروحة: إنها لم تخلق لذلك حتى نفيق فلا نركن إليها إلا كراكب استظل بظل شجرة ثم مضى إلى وجهته وتركها، ولكنها غريزة البقاء التي جبلنا عليها فتنازعنا إليها نفوسنا، ونظل في هذا الصراع نغفل تارة، ونفيق تارة حتى تأتينا الكلوم، وتزلزلناالخطوب ، فمن يعي الدرس أولا ويفطن إلى ما خلق إليه ، ويقرأ صروف الحياة وبلاءها، يوطن نفسه على خطوبها ، ومن يركن إليها فلا يلومن إلا نفسه .
وعلى قدر ما يقرأ المرء صفحات الأمثال المضروبة من حوله ، ويتفكر بها، على قدر ما قدر ما يمكن أن يواجه نوازل الحياة ويثبت معها وهو ما عناه القرآن بقوله " يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء" إبراهيم ، فتوطين النفس على الصبر والإيمان والالتجاء بجناب الحق، والاعتصام بحبل الله المتين وبالصلاة ، هي دواعي التثبيت التي تحفظ الإنسان حين يرد موارد الاختبار، وتعصف به عواصف البلايا ، وأما القلوب الغافلة الغارقة في خرافة البقاء ومناشدة الخلود فهي التي لا يبالى الحق بها في أي واد تهلك، ولله حزبه يحفظه، وللشيطان حزبه يخذله ، فإذا جاء الإنسان بقلب سليم مخبت مستسلم لله جعل الله البلاء عليه بردا وسلاما، كما فعل مع إبراهيم واسماعيل عليهما السلام " فلما أسلما وتله للجبين" الصافات، منتهى الإذعان والتسليم للأمر ، ومنتهى التفويض والانخلاع من حظ النفس من حب البنوة وخلود الذكر بعد مبلغ السعي والحرمان الطويل من الذرية، ثم يأتي الأمر بالذبح فلا يكون إلا التصديق والتسليم ، وهكذا مع نوح عليه السلام وابنه،  يقول الحق له "إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح " هود ، فيتبرأ على الفور من دعاءه ، ويستعيذ أن يكون مع الدعوة النورانية (النبوة)، وفي جناب الحق أن يكون حظ للنفس فيقول " ربي إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمنى أكن من الخاسرين " هود، وهكذا مع كل ثلة مؤمنة تبتلى وتختبر، ويكون البلاء على قدر الإيمان ( الأمثل فالأمثل) ، فمن ثبت واعتصم، واصطبر كان له الفوز والأجر، إنها لأمور لتكاد تنخلع لها القلوب، وتزهق منها النفوس إلا أن تمطر بسحائب الرحمة والغوث، فتورق في بواديها ثمار الإيمان فتكتب لها السعادة " أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون . ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين" العنكبوت"، "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين معه متى نصرالله ألا إن نصر الله قريب " آل عمران، "إذا جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا . هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا" الأحزاب.
ومن هنا تظهر معادن النفوس وطبقات الأرواح ، فيكون المؤمن مع البلاء كالذهب في النار يذهب خبثه ويبقى نفعه، ويا عجبا لأمره كله له خير حتى الشوكة يشاكها يكون له بها أجر مع الصبر، ويكون غير المؤمن مع البلاء كالريشة مع الرياح، يذهب نفعه ويذهب زبده جفاء، إذ لا توطين للنفس على صعب قد يمر بها ، فما تلبث حين تلقى الصعب أن تخور وتضيع " ولتجدنهم أحرص الناس على حياة"، لقد ضرب الله مثلا لرجال من المؤمنين صدقوا ما عاهدوا الله عليه منهم (سيدنا أنس بن النضر) حين غاب عن غزوة بدر، فحزن، وقال : غبت عن أول مشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لئن حضرت معه مشهدا ، ليرين الله ما أصنع ، ثم وجد في غزوة أحد وبجسده بضع وثمانون ضربة ولم يولي ظهره واستشهد مقبلا غير مدبر، فكان أن أنزل الله فيه وفي أمثاله قرآنا يتلى وثناء يبقى بقاء الحياة وبعد الحياة يوم العرض على الواحد الديان، وكذلك فعل غيره من الأكابر" للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون . والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ... الآيات ".
إن هذه النماذج النورانية قد أثرت الحياة البشرية ، وضربت أروع المثل للنفوس التي تحقق الإيمان قولا وعملا ، لا ادعاء وبطرا ، بل إن كثيرا منهم من فاق عمله قوله ، وجاد من نفسه وماله بأكثر مما تكلم به، إذ من المعلوم أن المرء يحاول جاهدا أن يقارب بين العمل والقول ، ويحقق بالجنان والأركان قول اللسان، لكن هذه المثُل الرائقة فاق إيمان التحقيق لهم إيمان التصديق، وغلب العمل القول بعد أن عاتبهم ربهم بقوله " ياأيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون . كبر مقتا عندالله أن تقولوا ما لا تفعلون" الصف.
 إن ضربات البلاء على النفس لأشد وقعا من ضربات السيوف ، وإن النفوس تحت وقعها لتجبن وتنفر إلا من ألهمه الله الثبات وأفرغ عليه من الصبر ما يتهادى به حتى تمر الصعقة ، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية، وإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف " (رواه مسلم ).، وقد ذكر أن عمرو بن الأطنابة وكان أميرا من أمراء الجاهلية فر على بغلته حين رأى أشعة السيوف ، فلما ولى تذكر أن ذلك سيذكر له في التاريخ فرجع يلوم نفسه ويقول:
أبت لي عزتي وأبى حيـــــائي     وكسبي الحمد بالثمن الربيـح
وإقدامي على المكروه نفسي      وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جأرت وجاشت     مكانك تحمدي أو تســتريحي
وقد ذكر أن المتنبي ظل يفتخر في شعره ببيته الذي يقول فيه:
الخيل والليل والبيداء تعرفني    والسيف والرمح والقرطاس والقلم
وكانت بينه بين أحد أحياء العرب عداوة بعد أن هجاهم ، فظفروا به ليقتلوه ، ففر هاربا بفرسه ومعه خادمه، فقال له الخادم: ألست القائل كذا .. البيت، فرجع فقاتل حتى قتل، وقد شاع أن هذا البيت الذي قتل صاحبه.
إن إطلاق الدعاوى ما أسهله، وإن مقارفة الوقائع والحوادث شيء مغاير تماما، وبين هذا وذلك تكون النفوس التي تقارب بين الأمرين أوتباعد، ومن خلال هذه المقاربة أو المباعدة تجلو معادن النفوس، ويكشف غثها من سمينها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "الناس كإبل مائة، لا تكاد تجد فيها راحلة"، وبقدر ما يكون ثبات النفوس وبلاؤها في الحياة بقدر ما تمنحهم الحياة من الذكر وتكتب لهم من الأثر، وكلما جرب من طوارق الحوادث وثبت وصبر وتجرع مرارة الصبر، كلما استطاع أن يكون مضرب المثل ، عميق الأثر ، كما قال المتنبي:
أفاضل الناس أغراض لدى الزمن         يخلو من الهم أخلاهم من الفطن

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك