عُمان والعمق الآسيوي

 

حاتم الطائي

 

صَاغت عُمان، ومنذ بواكير النهضة المباركة، سياسة خارجية حكيمة، عِمَادها الاتزان، وجَوْهرها التعاون؛ وذلك بناءً على رؤية إستراتيجية سامية من لدن حضرة صاحب الجلالة السلطان المعظم -أيده الله- عندما قال جلالته: "أريد أن أنظر إلى خارطة العالم ولا أجد بلدًا لا تربطه علاقة صداقة بعُمان"؛ لذا فإننا عندما نكتب ونحلل أبعاد المواقف والسياسات العُمانية تجاه مختلف دول العالم، فإننا ننطلق في ذلك من ثوابت وقاعدة أساسية تتمثل في "تعزيز التعاون وترسيخ الشراكات" مع الجميع.

ولقد كانت زيارة دولة لي ناك يون رئيس الوزراء في جمهورية كوريا الصديقة، انعكاسًا لنجاح تلك الرؤية السامية؛ إذ أسَّست هذه الزيارة لانطلاقة جديدة في مسيرة العلاقات الثنائية بين السلطنة وكوريا؛ امتدادًا للعلاقات التاريخية في العصور القديمة، ومرورا بانطلاق العلاقات الدبلوماسية الحديثة في أربعينيات القرن الماضي، واستمرت حتى وقتنا هذا بهذه الكيفية المتميزة.

هذا البُعد التاريخي حاضرٌ وبقوة في مُستوى العلاقات، وبصفة خاصة في الشأن التجاري؛ إذ يبلغ التبادل التجاري بين أكثر من 900 مليون ريال عُماني سنويًّا، وتتركز الصادرات العُمانية إلى كوريا بصورة كبيرة في صادرات النفط والغاز، فيما تنقسم الواردات الكورية للسلطنة بين مشتقات نفطية وسيارات ومنتجات المعادن. ويتضح لنا من خلال هذه المقارنة، أن العمليات التجارية بين البلدين تحمل أهمية اقتصادية، رغم أنها قد لا تتماشى مع حجم الطموح المشترك؛ لذا شهدتْ الزيارة الأخيرة لدولة رئيس الوزراء الكوري التوقيع على مذكرة تفاهم لإنشاء المدن الذكية؛ من خلال ضخ استثمارات في المنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم، وهي الخُطوة التي ستنقل العلاقات العُمانية-الكورية إلى آفاق أكثر رحابة، لا تتوقف فقط عند مسألة جذب رؤوس الاموال، بل تنتطلق نحو توطين التكنولوجيا وتعظيم استفادة عُمان من التقنيات الكورية المتقدمة.

والمتأمل للسياسة العُمانية الخارجية خلال الفترة الأخيرة، يجد أن ثمة حرصا كبيرا على توطيد العلاقات القائمة مع دول آسيا، خاصة شرق آسيا النامي، الذي بات قوة اقتصادية كبرى أمام اقتصادات أخرى مثل أوروبا وأمريكا. فخلال الشهر الماضي فقط، أعلنت السلطنة شراكة إستراتيجية مع الصين، وهو ما من شأنه أن يساعد على تطوير العلاقات العُمانية-الصينية، وخلال الأسبوع الماضي كان الموعد مع العلاقات العُمانية الكورية. والسلطنة إذ تتَّجه نحو عُمقها الآسيوي بكل جدية، فإنها تعمل على تأكيد العلاقات التاريخية التي ربطت البحارة العُمانيين في قديم الزمان مع هذه المناطق من العالم، وتبرز حرصها أيضا على استمرارية هذه العلاقات في الوقت الحالي، عبر اتفاقيات اقتصادية ناجحة، وجهود مشتركة للاستفادة من النجاحات التي تحققها هذه الدول في عدد من القطاعات، لاسيما قطاعات ريادة الأعمال والقطاع التقني واللوجستي.

والامتداد الآسيوي لعُمان يسير في خطوط متوازية مع علاقات عُمان بدول العالم الأخرى؛ فالعلاقات العُمانية مع أوروبا وأمريكا تمضي نحو مستقبل أكثر إشراقا أيضا، ولا يمكن أن يقول أحدهم إن عُمان تتجه نحو الشرق أكثر من الغرب؛ فهذه المعادلات السطحية لا مكان لها في الدبلوماسية القابوسية، التي تركز على بناء علاقات قوية ومتماسكة مع الجميع، وفي الوقت ذاته تحافظ عُمان على روابط الأخوة مع جيرانها في منطقة الشرق الأوسط، من العرب وغير العرب.. إنَّ إقامة علاقات تعاون وثيقة مع دول العالم كافة، باتت حقيقة قائمة، ونهجا متواصلا لسياسة حكيمة يقودها ربان سفينة هذا الوطن، حتى نظل نبحر ونجني ثمار العمل والاجتهاد.

لكن ومن جهة ثانية، وبعد أن أرست الدولة العُمانية قواعد التعاون الدبلوماسي والعلاقات الوطيدة، يتعين على القطاع الخاص ومجتمع رجال الأعمال أن يستثمروا هذا التعاون، وأن يعملوا على دعم توجه الدولة نحو تعظيم الاستثمارات الأجنبية على أساس من الشراكة مع نظرائهم في الدول الأخرى. إنني أتمنى أن أرى رجالَ أعمال يؤسسون شراكات مع نظرائهم في الصين أو كوريا أو أي دولة ترتبط بعلاقات تعاون معنا، حتى تكون هذه الشراكات دعامة للنمو الاقتصادي، من خلال إنشاء المصانع وافتتاح المشاريع الكبيرة في المناطق الاقتصادية والحرة، بما يضمن توفير فرص عمل مباشرة وغير مباشرة لشبابنا، علاوة على ما سيمثله ذلك من إضافة للناتج المحلي للبلاد، ويعزز من القيمة المضافة التي يمكن إيجادها للمنتجات المحلية.

ولعل مناخ الاستثمار المحفز والمشجع في عُمان، قادر على استقطاب رؤوس الأمول والخبرات الأجنبية، وأن تتحول عُمان إلى مركز إقليمي في مجالات بعينها، وهي المجالات التي حددتها الخطة الخمسية التاسعة الحالية، وأيضا "رؤية عُمان 2040"، وفي مقدمتها قطاعات الصناعات التحويلية واللوجستيات والسياحة والثروة السمكية...وغيرها.

وبالتوازي مع الجهود الرسمية الرامية لتعزيز علاقات التعاون، يأتي دور وسائل الإعلام في تسليط الضوء على هذه العلاقات، وما يُمكن أن تحققه من دعم لنموها؛ فالإعلام العُماني يُمكنه أن يشجع الاستثمارات من خلال التركيز على ما تقدمه المناطق الحرة والاقتصادية للمستثمر الأجنبي، وأن يسلط الضوء على الأرقام والإحصائيات الإيجابية التي تُبرهن على ما يتحقق على أرض الواقع من منجزات، علاوة على الاهتمام بما تكتبه عنا وسائل الإعلام الأجنبية أو المؤسسات الدولية المعنية بمناخ الاستثمار بشكل عام. كل ذلك من شأنه أن يخدم جهود الحكومة الرشيدة في الترويج للسلطنة، والعمل على جذب استثمارات أجنبية مباشرة، فتتضاعف معدلات النمو ويتزايد الإنتاج الصناعي، ويتحقق ما تصبو إليه بلادنا من تنمية ورخاء وازدهار.

ويبقى القول.. إنَّ الحرص الرسمي على بناء علاقات دبلوماسية قوية مع مختلف دول العالم تتسم بالمصداقية، وتؤكد على قيم التعاون البناء، ينعكسُ في خطوات كبيرة تقوم بها مؤسسات الدولة من أجل أن تتواصل التنمية في البلاد، وأن يظل المواطن الإنسان الهدف الأسمى لهذه التنمية وغايتها، وأن يعمل على حماية ما يتحقق من مكتسبات ومنجزات على أرض الواقع.