متحف لإبراز منجزات النهضة العُمانية

حمد بن سالم العلوي

فكرة تبادرت إلى ذهني حول متحف مقارن للنهضة العُمانية الحديثة، فقد زارني صديق خليجي، وأردت أن أطلعه على مُنجزات النهضة في محيط محافظة مسقط، وأنا أشرح لصديقي الزائر لعُمان أول مرة، فقد أذهله ما يرى من تطور وجمال في المدن العُمانية التي كنَّا نمر بها في محافظة مسقط، فعندما قلت له إنَّ هذا الذي تراه يحيط بك من عمران، وذلك حيث كنا نمرُّ في مناطق القرم قبلها الخوير، لم يكن موجوداً حتى عام 1970م، ولم يكن له أي أثر يُذكر في الوجود من قبل، ولا حتى في خيال الناس، فالتفت نحوي بذهول مستغرباً، وقال: هذا غير معقول؟! فقلت له بل معقول جداً، وأنا شاهد على ذلك العصر.

فكلما أوغرت به شرحاً عن ذلك الزمان، أخذ يزداد تعجباً وحيرة مما يسمع، وحتى أزيد من حيرته واستغرابه، رويت له قصة أحد الأصدقاء الذي منح قطعة أرض سكنية في مُرتفعات القرم، وكيف غضب من سوء حظه؟! وكيف باعها بثمن بخس!! احتجاجًا لأنه لم يمنح الأرض في منطقة روي، قال هل يُعقل هذا؟! قلت له نعم، وأنا شخصيًا عُرضت عليّ قطعة أرض في منطقة الخوير ورفضتها من الأساس، فظل بين أن يصدق أو يشكك في روايتي، فقد كان يشتمَّ في كلامي شيئاً من المُبالغة التي يصعب عليه تصديقها، والحقيقة ليس ذلك الزائر الآتي من بعيد، يجد صعوبة في تصديق ما يراه واقعاً في عُمان، وإنما الزائر العُماني للدنيا بعد حقبة تسعينيات القرن الماضي، لا يستطيع أن يتصور هذه القفزات الكبيرة التي غيرت الطبوغرافية العُمانية، وهم لا ينكرون الواقع الماثل أمامهم، بل لا يصدّقون ظرفية ما حدث خلال هذه الفترة الوجيزة من الزمن.

إذن؛ أصبح إنشاء متحف خاص دائم ليوثق تطور النهضة العُمانية، ضرورة ملحة وعاجلة، ليس بهدف إقناع الناس بحجم المنجزات التي طرأت على البلاد، وإنما للسياحة الذهنية - لنا نحن - الذين عايشنا حقب التطور في عُمان، ولأن الإنسان بطبعه ينسى والنسيان نعمة منَّ الله بها علينا، حتى نتجاوز الأحزان المؤلمة بمحوها من الذاكرة، لذلك نحتاج إلى متحف مقارن لمنجزات النهضة العُمانية العظيمة، وذلك من خلال الصور الضوئية، والأفلام التسجيلية عن الولايات والمناطق في كافة المحافظات العُمانية.

وذلك بحيث يعرض كل عقد بعقده، وبأن يبدأ هذا التوثيق المصور من عام 1970م، على أن ينظم بشكل هرم مقلوب، فلكل محافظة متحفها الخاص بها، فعلى سبيل المثال، محافظة مسقط ينشأ لها متحف، وليكن مقره بمجمع المعارض في عرفان، بحيث تعرض فيه صور لولاية مسقط عام 1970م، ثم عام 1980م، فعام 1990م، وعام 2000م، وعام 2010م، وعام 2020م، فهو قد أصبح على الأبواب، وبنفس الطريقة مع بقية الولايات الأخرى، وبهذه الطريقة سنُبرز التطور الذي حدث في السلطنة خلال الخمسة عقود الماضية، وهكذا الحال في كل المحافظات الأخرى.

إنَّ النهضة العُمانية المباركة، التي قادها باني عُمان الحديثة جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه - ليست أمراً عادياً، وإنما عمل عظيم قلَّ نظيره في العالم أجمع، فأن يحدث هذا الكم الهائل من التطور، وذلك في بلد كان يعيش الفقر والتخلف والانغلاق، ليس على الخارج وحسب، وإنما على الداخل بشكل أشد من الإجراءات الخانقة غير الضرورية، والمنفرة للناس إلى درجة الشعور بالضيق والملل، فلا طرق ولا وسائل نقل تضارع الموجود في المحيط القريب، ولا تعليم أو صحة، ولا كهرباء ولا هاتف، ولا أي نوع من الخدمات الاجتماعية، فربما كانت السجون اليوم، أفضل حالاً من الوضع في عُمان قبل عام 1970م، عدا السجون العُمانية بالطبع قبل العام سبعين، فكان الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود.

وليس تلك الظروف القاسية وحدها التي تجعل التطور شاقاً جداً، فكذلك شح الموارد الوطنية، وقسوة التضاريس الجغرافية، وجور بعض العرب على بعضهم البعض، والذي طبّق بعضه على عُمان، باستغلال ظروفها الصعبة، وكان الواجب يقضي بغير ذاك، ولكن من صفات عرب الزمن الأخير، أنهم يرون أنفسهم فقط، ومن بعدهم الطوفان، ونحن العُمانيين لنا تجارب مريرة معهم، ولكننا أمة لا تحمل الضغائن على البعيد، فمن باب أولى لا ضغائن لنا على القريب، لأننا نرى السماحة والعفو أفضل طريقة من الظلم والقهر، وهذه من شيم العربي الحليم الكريم.

إذن أعود إلى الموضوع وأقول، إن إنشاء متحف بهذا المعنى، يُعد بمثابة تقرير مفصل، يبرز سنيِّ النهضة العُمانية، التي هي محل فخر واعتزاز كل وطنيٌّ شريف، وشهادة إبداع في حق صاحب العقل والقلب الكبيرين، هذا القائد الفذ الحكيم الذي أكرم الله به عُمان وأهلها، ففي ذلك تعويض رباني للصابرين على صبرهم الطويل، وعدم تخليهم عن وطنهم الذي ليس كلكل الأوطان، فقد تعرض العُمانيون لعمليات إغراء واستقطاب، ذلك من قبل بلدان أصبحت غنية بالصدفة.

ولكن تلك الدول ليس لها أي ثقل بشري، يمنحها مقومات الدول، غير أنَّ العُماني فضَّل العمل والشقاء والغربة، أما الراحة والعزة والكرامة، فهي في الوطن الأصيل، فكان يكفيه بيت من الطين يعيش فيه، أو بيت من نسيج شعر الماعز، أو حتى تحت ظل شجرة يتنقل كالطير من شجرة إلى أخرى، ويرتزق من نخلة تشرب من سقي فلج، أو من بئر بزاجرة على غوَّافة ثور، فتلك قمة السعادة في ذلك الزمان، الذي كان فيه الصبر يساوي الذهب، وهو ينعم براحة البال، وينعم بالحقوق الاجتماعية الكاملة في الحياة.

إنَّ العُماني الذي أوردته هذه النهضة الرائعة العيش الكريم، ولا أقصد عيش الترف والبطر، لا يسعه إلا التضرع إلى الله رب الكون العظيم، أن يسبغ على جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظه الله وأبقاه - بفيض من الصحة الدائمة، والعافية التامة، والنصر على الأعداء، وأن يمكِّنه من نشر السلام أينما بَلَغَ السلام، وإرساء أسباب الأمن والاستقرار على أرض عُمان الغالية، وعلى شعبها الوفيِّ الكريم، وكل عام وجلالة السلطان في سعد وهناء، وعُمان وشعبها في تقدم ورقيِّ وازدهار.