يوم ليس كسائر الأيام!

 

 

عبد الله العليان

في مثل هذا اليوم؛ في الثالث والعشرين من يوليو 1970، نستعيد ونعاود الحديث بين الفينة والأخرى، عمَّا جرى في تلك الليلة المجيدة، وما تلاه من تغيير في كل أوضاع عُمان، التي رزحت زمناً طويلاً في العزلة والتَّخلف والتراجع في كل المستويات، حتى اضطر البعض من أبنائها إلى حمل السلاح للتغيير والخروج من تلك الظروف الصعبة، وكان هذا بحق مكلفاً وقاسياً على هذا البلد الكبير بتاريخه وأمجاده وحلم أبنائه، خاصة عندما يشاهدون دول المنطقة المُجاورة، وقد تغيرت فيها التنمية وحققت مكاسب مهمة تعليماً ونهضة.

وكنا نحن من ذلك الجيل الذي وعى في أواخر الستينات بما يُعانيه الوطن ويعيشه من الجانب الاقتصادي والاجتماعي والتعليمي، ونسمع عن سفر المئات، بل وآلاف العمانيين من كل محافظاتها من أجل التعليم، والعيش الكريم، بعد العزلة التامة لهذا البلد الذي كان واحدا من الدول التي يشار إليها بالبنان، من حيث المكانة والسمعة والتاريخ التليد مكانة وعلماً، وقد أصبح الحديث عنها خافتاً هامشياً، سوى سماع أخبار التوترات والمشكلات والصراعات من بعض الإذاعات والصحف التي تنتمي لأحد معسكري الحرب الباردة آنذاك، بعد ذلك ظهرت الثورة في ظفار والقصة يعرفها الجميع، واشترك فيها الكثير من أبناء عُمان، وبعدها زادت العزلة، واستحكم الحصار كثيراً في المرافق الحيوية خصوصًا المعيشية، وزادت قائمة الممنوعات، حتى قلت احتياجات الناس من بعض السلع من الخارج، فقبل هذا التوقيت بسنوات قليلة عاد جلالة السلطان المفدى من الخارج بعد إنهاء دراسته العسكرية والنظامية والحكم المحلي في المملكة المتحدة وألمانيا الغربية (آنذاك)، وكان يُتابع عن قرب ما يجري في عُمان والظروف الصعبة والاستثنائية التي تعيشها بلادنا، وأنه يُدرك بلاشك المخاطر التي تجري بكل مشكلاتها، سواء ممن يقابلهم، أو مما يتابعه من قراءته للصحف والمجلات التي تأتيه من الخارج. وقد أشرت في كتابات سابقة إلى كمية الصحف والمجلات التي وجدت في مقر إقامته في الحصن بصلالة واطلعنا عليها في أيام طوال لقراءتها واستفادة من بعض المعلومات السياسية والفكرية في فترة الستينيات من القرن الماضي.

وكان ظهور جلالته قبل توليه مقاليد الحكم قليلا، عدا حضوره في صلاة الأعياد وبعض المُناسبات المحدودة، وأذكر أنني شاهدت جلالته في إحدى المناسبات عام 1968، لتكريم بعض العسكريين في الجيش بالقصر، وحضر جلالته ماشياً مع بعض الحراس، إلى مكان الاحتفال القريب من ميدان 23 يوليو عند البوابة الرئيسية لقصر الحصن بصلالة، وكان يتوقف لازدحام النَّاس أمام البوابة لمشاهدة الاحتفال، ثم كلمة السلطان سعيد بن تيمور رحمه الله ولم يحضر المناسبة إلا عدد قليل من المسؤولين في ذلك الوقت. ونلمح في وجه جلالته -حفظه الله- آنذاك ما يُعانيه الوطن في كل مناطق عُمان، من توترات ومشكلات، ليست بالهيّنة، تكاد تعصف بمكانته وتلاحمه ووحدته قبل التغيير.

وفي عام 1969، بدأت الأوضاع تزداد سوءاً وتوتراً في كل مناطق عُمان، وبالأخص في مُحافظة ظفار، حيث الحرب تزداد سخونة في أغلب ولايات المحافظة، وبدأت جموع الشباب تسافر هرباً من الظروف القائمة والعزلة التامة عبر منافذ مختلفة، إما بالانضمام لحركة الثورة، أو السفر للخارج، وكان هؤلاء يسمعون بأنَّ الحياة الاقتصادية بالدول الخليجية قد تغيرت، وأصبحت الأعمال ميسورة، وبعضهم ذهب للدراسة في مصر والعراق وسوريا وبعض الدول في المعسكر الاشتراكي، وكان لابد من التغيير بأي صورة كانت، فالظروف حتّمت أن تخرج عُمان من هذا الوضع الذي أصبح خطيراً بالفعل، والحاجة تطلبت الإسراع في ذلك، كان هناك بعض الهمس عن تغيير قادم في أواخر الستينيات، لم يسمع به أحد في ظفار سواء عدد قليل من القريبين من جلالته، ومنهم المرحوم معالي الشيخ بريك بن حمود الغافري وزير الدولة ومُحافظ ظفار بعد ذلك ـ الذي أصيب في ذلك اليوم إثر الاشتباك الطفيف ـ وبعض العسكريين.

كان المرحوم الشيخ عوض بن سالم الغساني، قريبًا من معالي الشيخ بريك بن حمود الغافري ويلتقي به، بحكم جانب من القرابة يجمعهما، ففي ذلك اليوم عصر الخميس الثالث والعشرين من يوليو، بعد عودته من مقر عمله، كان يزور مجلس الشيخ عمر بن عوض حفيظ الرواس رحمه الله، بعد عودته من منطقة الحصن، حيث كان موظفاً، وبحضور عدد من الزوار الدائمين بهذا المجلس، وكنت أحد الحضور في ذلك اليوم التاريخي، وكعادة صغار السن قديما ، يجلسون في مجالس الكبار، لكون وسائل الترفيه في ذلك الوقت محدودة أو شبه معدومة، وكانت الحركة عسكرياً غير عادية، فسماع حركة الطيران فوق قصر الحصن، ونزول الكثير من السيارات بعدد غير قليل من الجنود، من قاعدة صلالة الجوية إلى قصر الحصن، والشيخ عوض الغساني، كما يبدو يعرف أن أمراً ما سيحدث ذلك اليوم، لكنه يلمح لشيء يكشف عن هذه الحركة غير المعتادة، لكن لم يفصح عما سيحدث، كما تم حظر التجوال بين وسط مدينة صلالة ومنطقة الحصن التي هي مقر الحكم، وهذا ما عزز التلميحات بالتغيير. وبعد ساعة ونصف الساعة، ومع اقتراب غروب الشمس، بدأت الأحاديث تنتشر بأن حدثاً قد تم بالفعل، وأن جلالة السلطان قابوس المُعظم تولى مقاليد الحكم، وأن السلطان السابق قد غادر جواً إلى الخارج، كان خبراً مُفرحاً ليس كبقية الأخبار التي سمعها العمانيون، إنه الحلم الذي راود الشعب في التغيير والخروج من واقع قاتم لهذا البلد وأهلها منذ عقود طويلة.

وأذكر أنَّ بعض الرجال الواقفين في أحد الميادين بصلالة بعد سماع خبر تولي السلطان قابوس الحكم، دار بينهم حديث هامس كما سمعته فقال أحدهم: وماذا عن الثورة في جبال ظفار؟ وما سيكون رأيهم فيما حدث؟ التغيير الذي هل سيقبله هؤلاء؟ رد أحدهم فقال له: إن هذه الثورة لن تستمر، وإن التغيير الذي سيحقق مستقبل عُمان وشعبها، سيفرض نفسه على هذا الوضع القائم، فالمطالب التي يريدها الناس ستتقدم على كل المشكلات التي كانت سبباً فيها، وهذا هو المطلب.. وبالفعل فإن الظروف حتّمت أن يكون الوعي بالمسؤولية الوطنية متقدماً على الكثير من الأفكار الجامدة التي كانت نتيجة العاطفة والأحكام المسّبقة، فالحاجة إلى بناء عُمان من كل السواعد ومن كل الرؤى والأفكار، التي سبقت التغيير في هذا اليوم، وعاد الجميع إلى الوطن، والإسهام في بنائه وتقدمه.. وهذا ما تم لعُمان وتحقق في ظل قيادة جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم- حفظه الله وأبقاه-.