حقيقة "المصلحة العامة"؟!

أنيس بن رضا بن قمر سلطان

 

الفرق بين الموضة والأناقة أنَّ الأول ينبع من الرغبة في إرضاء الآخرين بينما يُلبي الثاني احتياج الذات. وبالتالي فإنَّ متابعة صرعة ما أو محاكاة موضة العصر لا تضمنان الوصول إلى الأناقة.

ولكي تكون سياساتنا الاقتصادية أنيقة – أي أنها توصلنا إلى أهدافنا – يتحتم عليها أن تخدم المصلحة العامة وإن لم تكن "على ذوق" فئات في المجتمع. وفي نفس السياق، ليس من شأن كل صرعة أو حركة يهتف ويطبل لها الكثير أن تخدم الاقتصاد. على صناع القرار أن يقدموا بجرأة وحزم على سياسات قد لا تكون "شعبية" حال إطلاقها ولكن ستشكرهم عليها الأجيال القادمة.

سأبدأ بمثال بسيط - ومؤلم. قبل عقدين من الزمن كانت شكوى المتسوقين شح المحلات والأسواق والمراكز التجارية. وبعد دراسة الوضع تقدمت شركات عدة وسُمح لها بإنشاء مجمعات تجارية عملاقة في العاصمة وفي مدن أخرى. فرح المتسوقون وحصلوا على بدائل عدة من الأحذية والكماليات، واستفاد أصحاب العقار والمطورون وأصحاب المحلات والماركات المسجلة. نعيم تجاري ... أو خلخلة في توازنات اقتصادية واجتماعية؟

في كثير من المدن (خارج السلطنة) يشترط المسؤولون أن يكون موقع المجمعات التجارية الكبرى على بعد ٢٠ أو ٣٠ كيلومترا من مركز المدينة، لينعم المشترون والمطورون والتجار بكل ما لذَّ وطاب، ولكن ليس على حساب هيئة ومنظر المدينة أو مصادرها أو المتاجر الصغرى والمخبز المحلي والمقهى الشعبي وغيرهم ممن لن يستطيع منافسة العمالقة الذين يستحوذون على أفضل المنافذ والمواقع ويحجبون السوق عن بقية الباعة الصغار. وفي العاصمة الآن سيكون لنا خمسة مجمعات تجارية في محيط خمسة كيلومترات. فبجانب صغار المتاجر ستشتكي أيضًا الشوارع والطرقات – وتتضاعف التكلفة الاقتصادية والاجتماعية. موضة واحد – أناقة صفر.

ومثال آخر يتمثل في ضوابط أرباح المؤسسات التجارية السيادية. على كل مؤسسة تجارية أن تربح. الربح الحلال مشروع ومُبارك فيه، فمنه قوت الموظفين وجائزة المجدين والمبدعين ومكافأة أصحاب رؤوس الأموال ونمو مصادرهم – ومن دون هذه المنظومة لا تجارة ولا اقتصاد. على رأس هذه القائمة المصارف وشركات النفط والتأمين والطاقة والاتصالات. كانت تُدعى في السابق شركات محتكرة لمواد أو خدمة فريدة وخاصة. وعلى الرغم من تواجد عدد منها في كل مجال إلا أنه يجب أن تراقب وتضبط كمؤسسات في قطاع حكري، لأن البدائل غير موجودة خارج مجتمعها الضيق والنافذ.

يجب أن تقنن رسومها ونوعية أعمالها حتى تكون تكلفتها معقولة على المستهلك، وأن تكون أرباحها معقولة حتى لا تتفشى آفات الكثرة وعدم المبالاة في إداراتها. ويكفينا مثلا في سياسات معظم المصارف من قبل فترة لا زالت في ذاكرتنا حين سمحت بل وتهافتت على إعطاء أفراد العامة قروض بعشرين أو ثلاثين ضعف الراتب. لو سُئل أحدهم اليوم عن العودة إلى سياسة القروض تلك لا نستغرب أن يقول: من منّا لا يرغب في الحصول على مبلغ طائل؟ وكأنه نسي ما تبع من جر أذيال الخيبة وقيود القروض لسنوات طوال. المستفيد الأكبر من القروض الشخصية ليس الأفراد وإن أصروا بل وكالات السيارات والمصارف وشركات التمويل وإن أنكروا. دور الضابط هنا موازنة تأرجح الدخل والمصادر في المجتمع. وفي تلك الحالة قام البنك المركزي بتعديل معادلات القروض الشخصية.

وهناك سابقة طيبة في إحدى مؤسسات الطاقة التجارية التابعة للدولة؛ حيث بلغني أن شركة للغاز تستقطع نسبة من أرباحها السنوية لصالح المؤسسات الصغيرة وتنمية المجتمع تبعًا لشروط وسياسات متفق عليها مسبقًا مع الحكومة. وتلك سابقة حميدة ليس من الصعب تكرارها بل وفرضها كشروط على من يُمنح حقوق انتفاع تجارية كبرى في شتى المجالات.

وحديث الساعة الآن هو عن بيانات العامة الخاصة. تتلقى العديد من المؤسسات بياناتنا الخاصة جراء تعاملنا معها بالإنترنت. يعلم عمالقة البيانات أي أغنية وبرامج نشاهد قبل النوم، ونوعية مقتنياتنا وأذواقنا، وبإمكانهم أيضًا مشاهدة صور أفراد العائلة وأصدقاء كل فرد، وبالتالي تتكون لهم أنماط يسهل التعرف عليها واستهدافها لأغراض تجارية أو حتى سياسية. لماذا إذن واجه العالم شركة Facebook حين تم تسريب أو اكتشاف خبر تجارتهم بمعلومات عملائهم؟ يجب أن يكون لنا موقف حازم تجاه حصاد المعلومات هذا – سواء كان حصادا فعليا أو نظريا – وأن تُعلن سياسة حماية المعلومات الإلكترونية الخاصة في السلطنة.

وأترك القارئ الكريم مع مثل أخير حاز على جل اهتمام الجمهور. الوافد الأجنبي. تتفاوت مفاهيم ونظرتنا للوافد الأجنبي ما بين شريك ومساهم في بناء البلد إلى سبب في مشكلات اجتماعية واقتصادية. هل نستقبله؟ هل يستطيع اصطحاب عائلته؟ هل نسمح له التنقل من وظيفة إلى أخرى؟ هل نسمح لأنفسنا توظيفه وبعدها يعمل ما يُريد بما يريد مقابل دخل شهري؟ هل نسمح له بإرسال راتبه ومدخراته وأرباحه ليعيل من سافر ليعيل؟ هل نعطيه حق امتلاك الأصول والشركات والأسهم؟ هل نحمي حقوقه إن صغر ونتنافس على إرضائه لو كبر؟ هل نفصله من عمله في أوقات الشدة أو لا حتى لو كان أداؤه أفضل من المواطن؟ هل لدينا كل الخيارات والبدائل؟ أليست الأرض لله أمرنا أن نهاجر فيها حين تضيق معائشنا لنعمرها؟

لو تركنا الإجابة لاستفتاء الجماهير قد تتغير السياسة بين الحين والآخر في ظل المناخ الاقتصادي والاجتماعي أو بسبب حادثة ما أو تجربة شخصية. ولكن السياسة الاقتصادية لا تبنى على أهواء الشعوب، بل تبنى حتى تتمكن الشعوب من تحقيق غاياتها الاجتماعية والاقتصادية – العبرة في النتيجة وكما تُدين تُدان. فمنّا من يعمل في خارج السلطنة ويريد بل ويطالب بحقوق متساوية، ومنا المستثمر في أسواق أخرى ويطالب بحقوق دستورية تحمي استثماراته في تلك الأسواق الأجنبية.

إذا أردنا اقتصادا قويا، فواقع الحال أن يكون مفتوحًا للغير، والاقتصاد القوي يبنى على أرض مسالمة أنعم الله علينا بها وسياسات محفزة للاستثمار لا ننفك نبحث عنها.

وأيضًا كسياسة عامة وحفاظا على أناقتنا، أرجو الحفاظ على اللغة العربية، فنقول إنه مجمع تسوق وليس "مول"!!

تعليق عبر الفيس بوك