"لمن تقرع الأجراس؟"

 

عبيدلي العبيدلي

"لمن تقرع الأجراس؟" هو عنوان إحدى روايات أرنست همنغواي، الذي يعتبره نقاد القصة بحق "شيخ كتاب القصة المعاصرة، وأكثرهم شهرة في الميدان الأدبي". وهو أيضا الحائز على جائزة نوبل في القصة لعام 1954.

ويرى البعض أنّ "لمن تقرع الأجراس؟"، هي من أكثر روايات همنغواي روعة، لما "فيها صراع العواطف الإنسانية، والحب، والخيال، والفقر والفن. والحروب بويلاتها"، وأكثر من ذلك تشخص الرواية عناصر "النزاع بين العقائد والمثل"، ويسهب همنغواي في تصوير المشاهد التي تصور الصراعات بين الحق والباطل، وبين القيم الأفعال، موضحًا في إشارات متكررة ترد في متن النص ما يصدر من تفاعلات داخل نفوس شخوص الرواية، وأبطالها، من اختلاجات تعكس الكثير من المشاهد الحية المعاشة حينها، والمتمثلة في الصراعات بين الفاشية والشيوعية. لقد صور همنغواي في روايته هذه الحرب الأهلية الإسبانية بما فيها خطوط النضال بين الفاشية والشيوعية، وبين الديكتاتورية والجمهورية.

لسبب ما استرجعت ذاكرتي الكثير مما جاء في تلك الرواية الشيقة، لذلك الكاتب المميز، وأنا أعايش الأوضاع السياسية العربية الراهنة، وفي المقدمة منها الواقع البحريني.

فعلى المستوى العربي، يجتاح ما يشبه الضياع والتردد، شبيه إلى حد بعيد تلك العواصف التي اجتاحت تفكير بطل "الرواية عن الشاب الأمريكي روبرت جوردون الذي تم تكليفه لتفجير أحد جسور إسبانيا، وتُظهر الرواية المأساة التي عاش فيها الشعب الإسباني والتي امتدت لأكثر من ثلاث سنوات انقسم فيها الشعب الإسباني إلى معسكرين أساسيين وهما المعسكر القومي والمعسكر الجمهوري، وذلك عقب الانقلاب الذي حدث على أيدي القوميين ضد الجمهوريين وانتهى ببداية عهد ديكتاتورية في إسبانيا تحت قيادة الجنرال فرانكو".

فالسلوك السائد الذي يسيطر على محصلة السياسات العربية اليوم هو التردد والمزيد من التردد. وما تفتقده تلك السياسات اليوم، هو سياسة الحزم القاطع التي لا تعرف التردد، وتضعه جانبا كي يحل مكانه سرعة اتخاذ القرار الحاسم في الوقت المناسب، ووفق تفاصيل الخطة المناسبة.

لا ينفي ذلك التردد الاستراتيجي الذي نحذر من مغبة سلبياته، قرار تكتيكي حازم هنا، أو آخر مماثل هناك، لا يتركان أي أثر يذكر على السياق العام لاستراتيجية التردد العربية التي تكرر نفسها اليوم، وبشدة في معظم السياسات العربية، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، الموقف من السياسة الخارجية الأمريكية، تجاه الشرق الأوسط، والسلبية إن لم تكن المعادية للسياسات العربية، والتي لم تتردد في الكشف عن مواقفها السافرة المنحازة وبكل المقاييس نحو الكيان الصهيوني؛ على حساب الحق العربي وفي المقدمة منه حقوق الشعب الفلسطيني، المشروعة، والتي اعترفت بها له جميع القوانين والمؤسسات الدولية على حد سواء.

ومن العربي العام، ننتقل إلى البحريني الخاص، حيث نلمس السلوك المتردد ذاته من قضية مصيرية على المستوى المحلي البحريني، وهي الانتخابات البرلمانية المقبلة لدى الجمعيات السياسية، سواء تلك التي ما تزال مصرح لها العمل، أو الأفراد المنخرطين في العمل السياسي، ممن صدر قانون بحل جمعياتهم وحرمانها من حق المشاركة في الانتخابات.

وظاهرة التردد المُغرقة في نتائجها السلبية على مسار العمل السياسي المعاصر تكمن، ليس في عدم الإفصاح الصريح عن الموقف من تلك الانتخابات، بالسلب أو الإيجاب، بل عن الشكل التي سوف تتم بها المقاطعة لمن اختاروا طريق المقاطعة، وبأسلوب المشاركة، لمن وجدوا فيها الطريق الأسلم، والأكثر فعالية.

ولن أتوقف مطولا عند من انساقوا وراء قرار المقاطعة ولاذوا بالصمت، ولم يتردد البعض منهم بفتح قنوات حوار سرية، تردد حتى مجرد الإفصاح عنها لحلفائه، وعوضا عن ذلك سوف أكرس الحديث لمن جاهر بالمشاركة، لكنّه حتى الآن متردد في كشف أوراقه، وهي أوراق في غاية الأهمية، حول المسائل التالية:

  1. النطاق الفكري للبرنامج السياسي الذي ستخوض به الجمعية المعنية معركتها الانتخابية، والتي تتفاوت بين الدعم غير المباشر لشخصيات وطنية مختارة، أو جبهة وطنية عريضة تنخرط في صفوفها مجموعة من الجمعيات المشاركة سوية مع، أو بدون، شخصيات وطنية، معترف لها بمسيرتها الوطنية التي تؤهلها لنيل ثقة الناخب، وصوته أيضا. فالتردد في كشف هذه الجمعيات عن هذا الإطار السياسي، يعبر في جوهره، سواء اعترفت هذه الجمعيات بهذه الحقيقة، أم أصرت على إنكارها، عن عمق التردد السياسي الذي يسيطر على تفكيرها، ومن ثم ينعكس على سلوكها.
  2. الإطار التنظيمي الذي ستنفرد به كل جمعية على حدة، أو ستنضوي تحت رايته مجموعة من الجمعيات السياسية المشاركة، او صيغة وسطية بين تلك الصيغتين. وقد يبدو للبعض أنّ الصيغة التنظيمية قضية ثانوية أو هامشية، لكنّها في حقيقة الأمر سوف تبرز كقضية أساسية عندما يبدأ المشاركون حملاتهم الانتخابية. فأي من الصيغ المشار لها أعلاه سوف يترك بصماته الواضحة على مواد البرنامج الانتخابي، ومحتويات قنوات التواصل مع القوى الانتخابية. بل سيبرز بوضوح أكثر عند مد الجسور مع الهيئات الحكومية والدوائر المعنية.
  3. البرنامج الإعلامي الذي سيخاطب الناخب، وهو الآخر بند مهم يعاني من التردد الذي نشير له، فحتى الآن لم يطفُ على سطح الساحة الانتخابية، حتى الإشارات البسيطة التي تكشف عن البرنامج الإعلامي المطلوب صياغته. وربما يتوهم البعض أنّ المسافة الزمنية التي تفصلنا عن الانتخابات طويلة، لكنها أقصر مما يتصوره ذلك البعض. فالحديث الإعلامي باستحياء والإشارات الهلامية لا يمكن أن تكون البديل للبرنامج الإعلامي المطلوب.

 في اختصار، وكما أفرغ همنغواي رفضه الصريح والواضح بجلاء للترد في رواية لمن تقرع الأجراس، نحذر هنا مخاطر التردد في سياق الصراع المتوقع للمعركة الانتخابية للسلطة التشريعية القادمة.

ولن يخسر أمام شخص متردد، سوى ذلك الشخص الأكثر ترددا منه. وهذا ما تقوله رواية "لمن تقرع الأجراس؟"، إلى جانب قضايا أخرى لا تقل أهمية من موضوعة التردد، لكنها ليست ذات علاقة بموضوعنا الذي نتحدث عنه.