كفى تصحّرا

 

 

عبدالله العجمي

لعل من أهم حسنات مواقع التواصل الاجتماعي؛ أنها أعطت جميع مستخدميها مساحة تكاد تكون لا محدودة من حرية التعبير، كاسرةً بذلك الكثير من قيود التقوقع على الذات، لتقفز بمستخدميها من فوق أسوار محيطهم الضيّق وتحلّق بهم في سماءٍ يجدون فيها الكثير من الأصدقاء يشاركونهم آراءهم.. ولا يصطدمون بما يمكن أن يحجبهم عن حق التعبير عن هذه الآراء، هي الحريّة التي سطعت على الجميع مع بزوغ فجر هذه المواقع، ونستطيع القول بأنها حطّمت الكثير من الحواجز التي وضعتها بعض السلطات الحاكمة في الكثير من دول العالم، بل وكان لهذه المواقع تأثير قوي -أحياناً- على بعض القرارات المصيرية لدى بعض الشعوب.. ولعلّ وجود لفيف من الأصدقاء والمُتابعين (الافتراضي منهم أو الحقيقي) يتابعون هذا المستخدم أو ذاك، يعطيه جرعة من القوة للتعبير عن مكنون صدره، لإدراكه أن البعض من هؤلاء سيهبّ لنجدته إن طرأ طارئ، أو أحس بقمعٍ أو خنق أو تكميم لرأيه، فهو يدرك أنَّ ذلك لن يمر دون أن يعلم به أحد.

نحن إذاً أمام عالم جديد من عوالم الحريّة، يستطيع أي كان أن يقول ما يشاء ويُدلي بدلوه قبل أن يقوم من مقامه، وأن يصل صوته للعالم أجمع قبل أن يرتدّ إليه طرْفُه، فنرى البعض يُناظر في السياسة، والآخر يُشهر رأيه في الاقتصاد أو علم الاجتماع أو حتى في الدين، وليس مهمّاً مدى ثقافته واطلاعه وتخصصه في ذلك المجال حتى يحقّ له التعبير، فباستطاعة أيٍ كان أن يعبّر بما يتناسب مع ثقافته أو ما لا يتناسب معها، وهذا أسماه  البعض: حرية افتراضية!

لا يتطلّب منِّا الأمر سوى جولة فاحصة لتلك المواقع، ونتمعّن في أغلب التعليقات والنقاشات بين روّادها، وسنرى أننا أمام إحدى الظواهر الفاضحة التي كشفت الكثير مما خُفي من عيوب مخيفة وعقليات خطيرة، سندرك أن هذه الحرية هي للأسف ثقافة يجهل الكثير منّا كيف يسلك طريقها، فمساحة التعبير التي أتاحتها لنا هذه المواقع، حوّلها البعض إلى أرضية تُبرز رفضه للآخر، وإقصاءه له، بل وأخذها بعضهم منطلقاً للاستفراد بالرأي، والتمجيد لبعض العنصريات والعصبيات مروراً بكل ما يملكونه من مفردات سبّ، أو جمل شتمٍ، أو فحشٍ لفظي، أو عنفٍ فكري، وصولاً إلى التهديد في نهاية المطاف.

ولا يحتاج الأمر إلى دليل أو برهان لإثباته، إذ يكفي أن يكتب شخصٌ رأياً دينياً كان أو سياسياً أو فكرياً أو اجتماعياً.. بما لا يتوافق وإعجاب المتابعين، حتى تزكم الأنوف من شدّة روائح كلمات الشتم والسباب لينتهي الأمر اختناقاً بعبارات الاتهام في النفس والعِرض، ونسي هؤلاء أن من أهم أساسيات الرد على أي كان هو العقل والمنطق وبالتي هي أحسن، وأن يقارع الحجة بالحجة، وأن يصحّح الفِكر بالفِكر، فتكاد في خضمّ كل ما يحدث، أن تبحث عن رأي عاقل وحكيم في تلك المعمعة المقيتة فلا تجد.

إنه لأمرٌ مخيف، فقد كشف لنا عيباً مقيماً في الكثير من العقول ويأبى مغادرتها، إنه عيب الاستفراد بالرأي والإقصاء للغير والتمترس خلف قناعات وصلت إلى بعضهم كقوالب جاهزة، وكل ما يخالفها من رأي فهو مُتّهم، ألم يبدر إلى أذهان هؤلاء وجود احتمال منطقي أوعقليّ في أن يكونوا على خطأ ولو بنسبة ضئيلة جداً؟. وإن كانوا -فرضاً- على صواب، فلماذا يصيبهم جنونٌ ويلجأون إلى أساليب تُنفّر، لا يستخدمها إلا العاجز في الردّ؟ أم أن ذلك كله خشية من تعريتهم، وضبطهم متلبّسين بجرم الهشاشة وضحالة الفكر؟ ما المانع أن يستمع هؤلاء إلى الرأي الآخر ومحاورته بحيث يكون الوصول للحقيقة هو هدفهم المنشود؟ ما أبعدكم من منهج الحوار الذي طبّقه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم! ألم يكن القمّة في الأدب والرقيّ في الحوار وبالذات مع من يخالفه؟ ألم تقرأوا هذه الآية الكريمة التي خلّدت نهجه: "وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين" }سبأ:24{.. لِم لا تطبّقون سنته التي تدّعون أنكم حماتها؟

كفى غباءً واستغباءً.. كفى عبطاً واستعباطاً.. كفى تحجراً.. كفى تصحّراً! كفى مسخاً لكم ولإنسانيتكم.. ولتنطلقوا لتحصين عقولكم بالعلم والمعرفة، لتكون قناعاتكم مستندة على أسسٍ فكرية متينة، لكي لا تذروها الرياح مع أوَّل نسمة تمر بها.. إن كل ما نشاهده ونعاصره من سفكٍ للدماء واستخفاف بالقتل، وممارسات لكل أشكال العنف التي نراها، خارجٌ من رحم هذه الثقافة المضطربة..

إن الضمير الإنساني يحتّم على الجميع أن يعمل - كلّ في مجاله- على محاولة تفكيك هكذا ثقافة قائمة على إقصاءٍ للغير واستبدادٍ للرأي وتعصبٍ لفكرٍ قبالة آخر، يجب علينا أن نعمل على تأسيس ثقافة حديثة تقوم على أساس تقبّل الآخر، والاقتناع -طوعاً- أن في الاختلاف غنىً للجميع، علينا أن نرى مكامن الجمال في الطرف الآخر الذي يختلف معنا، وألا ندع الاختلاف معه يقف عائقاً عن التعايش معه وتقبّله بكلّ ما فيه.

إنها مسؤولية الجميع، بدءاً من الإرادة القوية، مروراً بالجهود الجبارة التي تحتاج لها، تربوياً أو اجتماعياً أو سياسياً أو إعلامياً، لنقطف ثمارها شيئاً فشيئاً في تغيير بعض الثقافات السائدة التي قدّست ما لا يُقدّس.. ومن ثمّ ننعم في ترسيخ ثقافة الاختلاف وتقبّل الآخر واضعين نُصب أعيننا أنه الأصل في نهضة الشعوب ورقي مجتمعاتها، عندها يمكننا فقط أن نكون أحراراً بحقّ، لا تلك الحريّة الافتراضية التي أوهِمنا بها في فضاء مواقع التواصل الاجتماعي..

abdullah-alajmi@hotmail.com