قراءة في قصائد الشاعر عبد السلام العطاري (2 – 2)


أمين دراوشة – ناقد وأديب فلسطيني – رام الله – فلسطين

إذا كان الشعر هو دفق من المشاعر الملتهبة، التي لا تتوقف إلا بانتهاء القصيدة، فإن الشاعر أجاد في التعبير عن مشاعره المضطربة والتي تتغير بتغير الأحوال والأمكنة. يقول وردزورث: "الشعر هو التعبير الخيالي لشعور عميق داخلي يكون موسيقى الأداء لأنه فيض عفوي للعواطف القوية تنساب للشاعر بهدوء". (10)
الأم الحامية في عالم مليء بالجدر:
إن الشعر الحديث قصائده تشعل الأسئلة، وتصارع النقيض، وتوحي بمغامرة الشاعر الذي لا يكف عن استنهاض الأمل، يديه المرتعشة تكتب وهي تنز ألماَ.
وعرف بعض الشعراء والنقاد الغربين الشعر على إنه تعبير عن العاطفة المتجأججة بما تكثله من حزن أو فرح والتي تخرج عبر الموسيقى والخيال.
وقال الكاتب ديلان: إنَّ"الشعر حركة موسيقية، تأخذنا من الظلام الدامس إلى الرؤية العارية...". (11)
بينما عرفه بابت دوج بأنه: " فن يستعمل الكلمات والموسيقى، ليكشف عن الحقائق التي سجلتها الحواس، وبعثتها المشاعر، وأدركها العقل، ورسخها الخيال المجنح". (12)
فالشعر المعاصر يهدف إلى العاطفة الصادقة الملتهبة، والخيال المجنح السامي، وتصوير حقائق الحياة بأجمل الصور وأحلاها وأكثرها إلاما.
يقول الشاعر في قصيدة "حفلة الميلاد":
"في القبْوِ
دُخانُ سجائِرَ لَمْ يَنْضَجْ تَبْغُها
وصوتٌ يَجهشُ بسعالٍ غريب
سعال يَختَرِقُ صدايَ
يتلوّى كأفعوانٍ على صدري
يُباعدُني كلّما تراءى وجهُ أمّي
كلّما كان وجهُها مخبوزاً على راحتيِّ اللهِ
ينشرُ رائحةَ حِنطَتِها،
وأمّي تَغسِلُ حناجِرَنا بزعتَرِها  
تُعِدُّ فِراشَنا الشِّتْوِيَّ
ترسُمُ أحلامَنا زهرةَ لَوْزٍ
على وسائِدِنا الصّغيرَةِ
تحرُسُها منْ كوابيسِ الغولِ" (13)
لا مكان دون زمن يعيش فيه، والقبو يوحي بالغموض والعتمة، ومكان اختزان الذكريات، تعيش فيه الأيام الماضية بحلوها ومرّها، وهو يشكل لا وعي البيت، ومخزن الأسرار، وموطن الصمت، وحضوره قليل في حياة الإنسان يدخله في حياته مرة أو عدة مرات. يدخل الشاعر القبو، يصمت لا شيء غير الدخان، وسعال غريب فيه يخترق قلب السكون، سعال ضار يشوش صورة الأم التي ترتسم أمام الشاعر، يحاول الشاعر تطرد هذا الصوت الشاذ، والذي يحاول طمس الذكريات العذبة، غير إن صورة الأم أقوى، فوجهها له من النور الآلهي نصيب، يضيء ظلمة القبو (الحياة). والقبو رغم ما فيه من مظاهر الخوف، يبقى يمثل العائلة داخل منزلها، أو بمعنى آخر الأرض التي تشد ابناءها، ويبقوا على ثراها لا يغادرون رغم كل شيء، ومن قلب الأرض تستعين الأم بأدواتها: الزعتر، لتنتشل ابناءها من السعال المخيف الذي يهددهم، ومن زهر اللوز الذي تجود به الأرض تشكل الأم الصلبة و الثابتة أحلام صغارها، طاردة بنقائها وطهارتها كوابيس الغول الذي يريد أن يلتهم الصغار والأرض. ويضيف الشاعر:
"أمّي تقرأ المُعوِّذات سَبعاً
تطوفُ حولَنا سَبعاً
سبْعٌ كأيّامِ الأسبوعِ
 لا تستريح بها الأحلام" .(14)
الأم الحنون التي لا تتوانى عن فعل شيء لحماية أطفالها، تقرأ المعوذات سبعا، المعوذات (سورة الفلق، سورة الناس) وهما اللتان أنزلهما الله جل شأنه لينقذ رسول الحبيب من سحر اليهود، إن إيحاء العدد سبعة يدل على المقدس في مقابل المدنس الذي يريد أن يطغى صوته على صوت الحق والطهر، يقول الشاعر:
"مَنْ يُسكِتُ ضجيجَ
الغريبِ لِتُغَنّي أمّي...
مَنْ يَمسَحُ غُبارَهُ عنْ وجهِ السّماءِ
لترسم (تيمائي) بِسَبّابتِها
حَجلةً...
 مَنْ يَنـزَعُ جِدارَهُ عَن أحلامِنا
لأقْطِفَ كَرمَ عِنَبي
وانَتبذُهُ لحفلةِ الميلاد. (15)
يتساءل الشاعر عمن يستطيع أن يخرس الصوت الشاذ والغريب الذي لون أيامنا الماضية بالسواد، يرغب الشاعر بحياة خالية من البغض والحقد والظلم والاستبداد والاحتلال، فقد آن الأوان لتتلاشى الظلمة وكل ما يعيق الرؤيا...آن الأوان لترسم الابنة الصغيرة طير الحجل الجميل، وتطير معه في عالم زاهي خالي من الألم، آن الأوان لخلخة جدر الكوابيس، وهدمها لتفسح لأحلامنا بتسلق كروم العنب، وانتظار حفلة الميلاد القادمة دون وجع وخوف.
في ديوانه احتفى الشاعر عبر رموزه بالطبيعة التي هي المنبع الرئيسي لشعره، فالشعر كما قال  روبتسن: "لغة الإحساس تصور ما لا قدرة لنا على تصويره من حدث لا طاقة لنا على وصفه، وإن علت مرتبة الشعر أو صغرت". (16)
يعبر الشاعر في ديوانه عن أفكاره، فالشعر ما هو إلا تجربة ذاتية لكاتبه، والشعر لا ينفصل  عن الفكر، فبينهما "علاقة قرابة معتكفة اعتكافا عميقا، لأنهما كليهما منقطعان لخدمة اللغة ولا يدخران من أجلها جهدا". (17)
غير أن بينهما هوة سحقية كما يقول مارتن هيدجر، فهما "يقيمان على قمم جبال متباعدة فيما بينهما". (18) متباعدة بدرجة كبيرة جدا، ومن هنا يأتي دور اللغة التي مهمتها التعبير عما هو واضح وما هو موحي وغامض وكامن في النفس. "تأسيس للكينونة عن طريق الكلام...ولكن اللغة الأصلية هي الشعر من حيث هي إرساء لأسس الكينونة". (19)
يكتب الشاعر مقطوعاته بحيث يطمس الحواجز بين ذاته والعالم البراني، فالكتابة حسب بنيس لا تكتب عن شي بل تنكتب مع شيء. هي أثره، "في انفلات الحدود بين الداخل والخارج، بين الأدب والفكر، بين الشعر والنثر، بين السواد والبياض، تبحث الكتابة عن مقامها، إنها شفيع التجربة التي تنتهي لتبدأ، نازعة عنها كل نبويّة أو غنائية. حلزونية تكون ويتيمة تبقى". (20)
يستحق الديوان الإشادة، فهو يضع لبنة أساسية في مدماك الشعر الفلسطيني والعربي ليزداد قوة وتماسكا وألقا.
................................
الهوامش:
1- فيكتور الكك، وأسعد علي. صناعة الكتابة. بيروت: منشورات دار غندور للطباعة والنشر والتوزيبع. ط1. 1972م. ص 7.
2- عبد السلام العطاري. عرّاب الريح. عمان: منشورات دار الشروق للطباعة والنشر. ط1. 2013م. 52.
3- المرجع السابق. ص 53.
4- المرجع السابق. ص 53.
5- المرجع السابق. ص 54.
6- المرجع السابق. ص 54-55.
7- المرجع السابق. ص 55.
8- المرجع السابق. ص 52.
9- المرجع السابق. ص 55.
10- يوسف عزّ الدين. التجديد في الشعر الحديث. دمشق: منشورات دار المدى للثقافة والنشر. ط2. 2007م. ص 46.
11- المرجع السابق. ص 48.
12- المرجع السابق. ص 48.
13- عبد السلام العطاري. مرجع سابق. ص 105.
14- عبد السلام العطاري. مرجع سابق. ص 106.
15- عبد السلام العطاري. مرجع سابق. ص 106.
16- يوسف عزّ الدين. مرجع السابق. ص 48.
17- فيكتور الكيك. مرجع سابق. ص 110.
18- مارتن هيدجر. في الفلسفة والشعر. ترجمة عثمان أمين. القاهرة: منشورات الدار القومية للطباعة والنشر، ط1. 1963م. ص 72.
19- فيكتور الكيك. مرجع سابق. ص 111.
20- محمد بنيس. مرجع سابق. ص 14.

 

تعليق عبر الفيس بوك