لماذا تميّزت السياسة العمانية الخارجية؟

 

عبد الله العليان

تعاطت السياسية العمانية من سبعينيات القرن الماضي، برؤية حصيفة وعقلانية في التحولات والتغيرات السياسية في عالم اليوم، سواء في القضايا العربية الإقليمية، أو القضايا الدولية. وكانت الانطلاقة السياسية التي قادها حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم- حفظه الله ورعاه- منذ توليه الحكم عام 1970 تنبع من الحاجة إلى نظرة إيجابية تهدف إلى احتواء التوترات والمشكلات، وإيجاد الوسائل التي تقرب وجهات النظر عند الاختلاف والتوتر في العلاقات السياسية بين الدول.

هذا بلا شك أدّى إلى التقارب بين السلطنة وبين بعض الدول التي كان لها دور سلبي في بعض المشكلات السياسية، وخصوصاً دعم الاتحاد السوفيتي السابق والصين للثورة في جنوب عمان، لكن السلطنة ترى أنّها لا تؤمن أنّ هناك عداوة دائمة، ولا صداقة دائمة، إذا ما أخل أحد بأسس علاقة قائمة كعدم الاستجابة لوقف التدخل في الشؤون الداخلية، وهذا منهج ثابت في السياسة والدبلوماسية العمانية القائمة، وبالفعل تمّت المشاورات واللقاءات الجانبية بين السلطنة والاتحاد السوفيتي السابق في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، وهذا اللقاءات والاجتماعات الجانبية، مهّدت لقيام علاقة ناجحة بعد ذلك، حتى بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وقيام روسيا الاتحادية، وكانت رؤية جلالته معروفة وثابتة في أن تكون علاقة عُمان بكل دول العالم، دون استثناء، وهذه رغبة قالها عاهل البلاد حفظه الله في أحد أحاديثه من "أنني أريد أن أنظر لخارطة دول العالم ولا أجد بلداً لا تربطه صداقة بعُمان".

وقد عبّر جلالته عن هذا التوجه الذي سارت عليه بلادنا منذ انطلاقة النهضة، وقال في أحد أحاديثه عن هذا الأمر: "سياستنا واضحة وضوح الشمس فنحن نريد أن نصادق كل شعوب العالم ويكون لنا علاقات معها، ولكن هناك أسس يجب أن تكون أولاً واضحة لدى من يريد أن يمد يده لنا، وهذه معروفة، وسياسة السلطنة الخارجية تقوم على الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية إلى آخر هذه الأسس المعروفة، والعمل من أجل الاستقرار والسلام في العالم، فإذا عملت من أجل الاستقرار في منطقة ساهمت مساهمة كبيرة لأنّ كل منطقة هي جزء من العالم كله".

إنّ هذه الرؤية السياسية والدبلوماسية الحصيفة، أسهمت في علاقات متينة بالكثير من الدول في المعسكر الاشتراكي سابقاً التي كانت تابعة لحلف وارسو الذي يتزعمه الاتحاد السوفيتي، بعد التحوّل في الكثير من سياساتها السابقة وانتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والمعسكر الاشتراكي، وكان طرح عُمان الواقعي والمنطقي في قضايا كثيرة قد منحها مصداقية كبيرة في سياستها الخارجية وتعاطيها بحكمة وحسن تصرف في القضايا الساخنة والخافتة؛ مع ثبات السياسة العمانية في القضايا الإقليمية والعالمية على المبادئ التي اتخذتها طريقاً معلنة، وإسهامها في حل الخلافات الإقليمية والدولية تقديراً من دول العالم لسياستها المتوازنة في المشكلات والخلافات التي قد تنشأ بين بعض الأطراف، دون الانجرار إلى سياسة المحاور، وإثارة التوترات والنعرات، وقد سمعنا وقرأنا من البعض أنّ سياسة السلطنة تتسم بالعزلة والبعد عن الحضور في كثير من القضايا الإقليمية والدولية، وهذه مغالطة لا تستقيم وسياسة عُمان الواضحة والإيجابية وحضورها الدائم والمؤثر، والسبب أنّ هؤلاء للأسف، يخلطون بين السياسات التي تتبع عند بعض الدول في القفز على الواقع والظروف، واتخاذ مواقف ليست مدروسة وواقعية، وبين نظرة السلطنة التي تنظر نظرة مختلفة خصوصاً سياسة حرق المراحل، واتباع سياسات فيها الاستعجال والعاطفة، وعدم حساب ما سيترتب على قرارات تكون فيها مجازفة ومخاطرة، دون النظر للمحاذير التي ربما تكون عكسية فيما بعد.

الحقيقة أنّ الكثير من السياسات التي أقدمت عليها بلادنا، كانت واقعية وعقلانية، مع أنّها خالفت بعض السياسات التي اتفق عليها البعض، وكان الاتفاق كما تراه عاطفياً، ولم يكن دقيقاً في الكثير من هذه السياسات، ولاقت هذه السياسة العمانية تقديراً عربياً عالمياً بعد ذلك من الكثير من الباحثين والسياسيين وأصحاب الرأي، وأثبت الواقع صوابها، وأتذكر أنه في عام 1988، كنت أحد الصحفيين الذين حضروا أحد المؤتمرات لدول مجلس التعاون ـ أيام ما كان المجلس قائماً دون توترات! ـ في مدينة جدة السعودية، وكانت في تلك الفترة بدايات مناقشة الكثير من قرارات المجلس وقوانينه، وكانت العلاقة آنذاك لا تزال مقطوعة مع مصر، وقد تم التطرق لموضوع مقاطعة مصر في بعض هذه الاجتماعات، وقد مر على قطع العلاقة ما يزيد على عشر سنوات، عدا السلطنة التي لم توافق على القطع رغم النقد والتشكيك والحملات الإعلامية عليها من البعض، وعند رجوعنا للسلطنة، وكنت مع الوفد في رحلة العودة لمسقط، اقتربت من مقعد معالي يوسف بن علوي بن عبدالله الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية بالطائرة، وقد له: معالي الوزير: "حضرت المؤتمر وتابعت ما دار فيه، لكنني لم أحصل على سبق صحفي، ولا خبر يثير الانتباه والنشر"، فقال لي معاليه أكتب: "نحن في السلطنة لم نقطع العلاقة، ومصر دولة كبرى، ومن حقها أن تتخذ أي قرار سياسي ترى فيه مصلحتها ومصلحة شعبها، وإذا لم يتخذ قرار جماعي لعودة العلاقة مع مصر، فإننا نعلم أن بعض الدول العربية سوف تتخذ قرارات منفردة لعودة العلاقة مع مصر".

بعدما سلًمت الخبر لجريدة عُمان هاتفياً مساء، جاءني اتصال بعد ساعة، من رئيس التحرير آنذاك الأستاذ حمود بن سالم السيابي متّعه الله بالصحة والعافية، وطلب تأكيداً منّي لهذا الخبر، فأكدت له ذلك، وبعد النشر لاقى الخبر صدىً كبيراً في الكثير من الوكالات العربية والأجنبية، وخصوصاً من مصر، وفعلاً لم تمر أشهر قليلة حتى عادت العلاقة مع مصر بقرار جماعي.

هكذا كان الأمر مع سياسات بلادنا وتحركاتها، لحل الخلافات، وإنهاء الحرائق والتوترات، وتقريب الرؤى بما يحقق المصلحة العليا للأمة، وعندما نحضر نحن العمانيون بعض المؤتمرات أو ندوات، نجد الإشادة والتقدير لسياسة السلطنة، وحصافتها في الكثير من القضايا والمشكلات، وهذا ما يزيدنا إلا سعادة وتقديراً لهذه السياسة وتحركاتها في كل القضايا العربية والدولية.