أنا أحب الشحم!

 

د. سيف بن ناصر المعمري

هذه العبارة لم تطلق في مأدبة غداء أو عشاء يتوسطها صحن يجلس عليه "قعود" بسنامه المكسو بالشحم الذي يُغري كل من يشاهده أن يصرخ "أنا أحب الشحم"، ولكنها قيلت في منطقة أخرى غير منطقة "الكرم الغذائي" التي نعيش عليها على حد تعبير المرحوم غازي القصيبي، وقيلت في سياق آخر مُختلف هو سياق اقتصادي، تعكس كيف يُمكن أن تتحرك التنمية من خلال التحفيز والتقارب والتقدير التي يحملها المعنيون بها سواء كانوا قادة أو وزراء أو رؤساء شركات، وكيف تحدث هذه الكلمات إصرارا كبيرا لدى المواطنين أو العمال على الفخر بالأشياء التي يقومون بها وأيضا ببذل أقصى ما يستطيعون لإنجاز ما يوكل لهم من مهام، حيث يُردد الجميع "أنا أحب الشحم".

العبارة التي قالها رئيس شركة هوندا اليابانية سويتشيرو هوندا رئيس أكبر شركة للدراجات النارية في العالم وشركة من الشركات العشر المُسيطرة على سوق السيارات في العالم حيث كان يومًا يزور إحدى شركاته.. فأراد مُصافحة أحد العُمال فيها ولكنَّ العامل سحب يده بسرعة لأنَّها مُغطاة بالشحم، لكن هوندا سحب يده وصافحه مبتسماً قائلاً له "لماذا تسحبها؟ أنا أحب الشحم.. وكان هذا الموقف واحدًا من عدد كبير من المواقف التي حرَّكت النهضة اليابانية، حيث يقدم الرؤساء الدعم للذين يقودون العمل في المزارع والمصانع والحرفيين والمُعلمين وربات الأسر من أجل القيام بأدوارهم.

كم واحد يحب "الشحم"؟ ويحب الأيدي التي يُغطيها الشحم؟ كم واحد يُحب التراب ويحب الأيدي الملطخة بالتراب؟ كم واحد يحب رائحة السمك والأيدي التي تفوح منها رائحته؟ كم واحد يحب رائحة الحيوانات والأيدي التي تعمل على تربيتها؟ كم واحد يحب روائح العمال أياً كانت مهنهم؟

هذا الحب لابد أن يترجم إلى سلوك عملي في هذه المرحلة التي نبحث فيها عن الأنشطة الاقتصادية التي أهملناها نتيجة وجود إيرادات النفط وتركناها يعبث فيها من يعبث ولكن اكتشفنا بعد كل تلك السنين أنه لابد من العودة إليها ولابد من الاهتمام بها، ليس بسبب أنها سوف توفر لنا بعض الإيرادات التي نحن في أمس الحاجة إليها ولكن لأنها تمثل مصدر أمن اقتصادي لنا في ظل ما يجري من تجاذبات تعيشها المنطقة التي قدر الله علينا أن نعيش فيها، وبالتالي فإنَّ تبني سياسة "أنا أحب الشحم " ضرورة لإظهار الدعم الحقيقي للعاملين في كل مكان، وكذلك لرواد الأعمال الذين يحفرون الصخر في الزمن الصعب من أجل إيجاد أرض يقفون عليه بثبات في الحياة الاقتصادية.

في الواقع ورغم ما نتأمل من الدعم المعنوي للأهداف التنموية، إلا أن الأيدي التي يُغطيها الشحم لا تجد من تسحب منه ليقول لها مثل ما قال هوندا "أنا أحب الشحم"، فكل من يجدر بهم الخروج لتحفيز هؤلاء العمال لا يُغادرون المكاتب التي لا تحب إلا التكييف، وروائح العطور والبخور والعود الذي يبعث على الاسترخاء من كل عمل لأنه يعد مؤشراً على الرخاء. في مثل هذه البيئة لايُمكن أن يخرج الناس من طابق إلى آخر لمصافحة الأيدي المنهكة من مسك القلم أو الطباعة على الكمبيوتر، أو تلك التي تقف على البوابات طوال اليوم لحراسة المكان، فما بالنا بالخروج إلى المزارع والمصانع والورش والمحلات والمقاهي والشوارع والأسواق للشد على هذه الأيدي بصدق من أجل مواصلة العمل من أجل تحقيق النهوض الاقتصادي وتقليل الضغوطات المستقبلية على الاقتصاد الوطني، والحد من التحويلات المالية التي تخرج خارج البلد والتي تجاوزت سبعة مليارات ريال سنويًا.

هذه الفجوة بين العاملين والمؤسسات لابد من ردمها، لأنَّ نتائجها سلبية لدرجة كبيرة على الاقتصاد وأيضا في الثقة بالمؤسسات والحكومة، لقد شعرنا بسعادة كبيرة جدا حين وجدنا معظم المسؤولين الحكوميين في الميدان في ظفار أثناء إعصار مِكونو، لأن وجودهم قدم دعمًا كبيرًا للجهود التي بذلت للتغلب على آثار الإعصار، وإذا كان هذا الخروج ضرورة في وقت الأزمات فهو أكثر ضرورة في غيره من الأوقات حيث العمل بدون ضغوطات من أجل تحفيز المسيرة الاقتصادية.