قميص يوسف.. معجزة الحب

 

 

محمد علي العوض

 

القصص في القرآن الكريم معين من الجمال لا ينضب، لاسيما قصة سيدنا يوسف بما حوته من حلاوة عرض، وحسن تصوير، بجانب العظة المستخلصة منها والتي تشير إلى أن الظلم مهما تقادم عهده وتطاول فلابد لفجر الحقيقة أن ينبلج. ولا غرابة أن يُقدم للقصة بقول المتعال: (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هٰذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين) فهي قصة مكتملة الأركان ومستوفية لعناصر السرد من زمان ومكان وحدث وحوار وسرد؛ الموزعة بين مشاهد القصة ومواقفها.

يبدأ كر خيط السرد في القصة بإرهاص متمثل في رؤيا النبي يوسف (... أحد عشر كوكبا والشمس والقمر...) له ساجدين، وينبئ بالعقدة الفنية في القصة كاشفاً عمَّا يُخبئه المستقبل ليوسف، فالإرهاص كما وصفه "رولان بارت" بذرة تنضج، وتقنية تكشف روح القصة، وتمهد لتطورات أحداث السرد، لذا حذر يعقوب ولده قائلا: (... يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا).. وبناء على هذا الإرهاص (العقدة) تتنامى الأحداث الرئيسية في القصة لتفضي إلى بقية العقد الأخرى، فالعقدة الثانية هي غيرة إخوة يوسف عليه وترديدهم: (... ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين) ولتكون تلك المشاعر بداية المؤامرة وإلقاء سيدنا يوسف في غيابة الجب.

إنَّ إحكام البناء الفني وطواعية الحدث الفني وقابليته لانبثاق أحداث جديدة منه واحد من دلائل إعجاز القصة القرآنية، وقصة سيدنا يوسف نموذج لما يسميه محمد يوسف نجم في "فن القصة" عنصر تطوير الأحداث، الذي يبعث في القصة القوة والحركة والنشاط؛ حيث تأخذ الأحداث في السورة برقاب بعض في تراتبية فريدة؛ فمن حدث حياكة المؤامرة إلى غيابة الجب، ومن فتنة الرِّق إلى حدث الإغواء، ثم فتنة السجن، ثم أزمة السنين العجاف قبل أن تأتي اللحظة التنويرية الكاشفة وتُحل جميع العقد بتحقق الرؤيا والاستغفار لإخوته ورفع أبويه على العرش.

تلك التراتبية في المشاهد مبنية على أساس تعاقب الأحداث وتتابعها ضمن سلسلة سردية واحدة سواء كاملة أو صغرى في الآيات المتتابعة، ومن أمثلة تلك التراتبية قول نسوة المدينة: (امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين) تسمع امرأة العزيز بقولهن هذا، فترسل إليهن وتعد لهن متكأ وتعطي كل واحدة منهن سكينا لقطع الفاكهة، ثم تدفع بيوسف ليخرج عليهن، فينبرهن بجماله وتذهب عقولهن حتى أنهن قطعن أيديهن بدل الفاكهة دون أن يشعرن، فتستميلهن لعذرها بجملة (فذلكن الذي لمتنني فيه).

اعتمدت قصة سيدنا يوسف على انتقاء الأحداث وتقسيطها بتكثيف موغل في الفنيات والتقنية، ويتم توظيف هذا الانتقاء في تفجير الطاقات اللغوية والإمكانيات التصويرية؛ ففي آية (قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) انتقى القرآن تلك الحادثة، بالإشارة إليها دون سرد تفاصيلها، مستخدما أسلوب اختزال الأحداث، وتلخيصه في أحداث نووية مركزة بسيطة، والتخلي عن الوظائف الثانوية التكميلية، والتفاصيل المسهبة التي فسرها الطبري في تاريخه على لسان سعيد بن جبير أنَّ سيدنا يوسف أخذ صنماً لجده لأمه، كسره وألقاه في الطريق، فكان إخوته يعيبونه بذلك. وقال آخرون إنَّ عمته اتهمته بسرقة لتستبقيه عندها محبة فيه، وكي لاترده لوالده الذي دفعه لها ردحًا من الزمن. وجملة (واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب) الومضة؛ وحدها تكفي لتبيين جمال التكثيف والحذف. فإن أجرينا التمطيط والإسهاب بمقاييس البشر والبنية العميقة للجملة لكانت القصة هكذا: (استبق يوسف وزليخة إلى الباب، وعندما أيقنت أنه فائز لا محالة جذبته من خلفه بشدة حتى تمزق قميصه، عند الباب كانت هناك مفاجأة أخرى بانتظارها؛ ألفت زوجها يهم بالدخول)..

تجري الأحداث في القصة وفق انتقالات زمنية دالة عليها اللغة، فجملة "يا بشرى هذا غلام" دالة على العمر الزمني ليوسف عندئذ. ومفردة "راودته" دليل على أن يوسف "بلغ أشده" وصار رجلا بالغا، وجملة "بضع سنين" دالة على قضاء يوسف في السجن أكثر من 3 سنوات، لأنّ "البضع" ما بين الثلاث إلى التسع.

معظم الآيات في سورة سيدنا يوسف مشتملة على الحوار، ففي بداية القصة نجد حوار يوسف مع أبيه، ثم حوار الإخوة مع أبيهم لترك يوسف يخرج معهم، ثم حوار امرأة العزيز مع يوسف، وحواره مع صاحبي السجن ومع العزيز بعد خروجه من السجن، وحواره مع إخوته أثناء الكيل واستغفاره لهم.

الشخوص عنصر أصيل من عناصر القصة فهم الذين يفعلون الأحداث ويتلقونها ويتفاعلون معها كما يقول عز الدين إسماعيل في "الأدب وفنونه". وتضم قصة سيدنا يوسف 18 شخصية تخدم الأحداث وتطورها، وبرغم هذا التعدد إلا أنَّ الحكاية متماسكة والمتلقي قادر على متابعة تفاصيلها - كيف لا وهي من لدن الخبير العليم-.

وتمثل شخصيتا سيدنا يوسف و"إخوته الجماعية" كطرفي صراع الشخصيتين الرئيستين في القصة، تدور حولهما الشخصيات الثانوية الأخرى كشخصية سيدنا يعقوب وامرأة العزيز وأخيه بنيامين والملك وغيرهم، وتكمن جماليات محور الشخصيات في قصة سيدنا يوسف في اتجاهها للتعامل مع بعض الشخصيات من خلال وصفها بوظيفتها أو موقعها الاجتماعي بدلا من ذكر اسمها؛ لأن الوصف أحيانا يغني عن الاسم، ويلتقط دلالات أكثر عمقا. فالقرآن لم يقل اسم "العزيز" بل وصفه بـ "الذي اشتراه من مصر" كما لم يقل "زليخة" صراحة؛ وفي هذا المنحى يورد عبد الكريم خطاب في كتابه عن قصتي آدم ويوسف تعليلا لطيفا لعدم ذكر اسم زليخة والاكتفاء بـوصف "التي هو في بيتها" فذكر أن القرآن سترها حتى لا تفضح بين قومها، كما لم تُفصِّل القصة أسماء إخوة يوسف بل وصفتهم برابط الأخوة، بجانب شخصيات أخرى جرى وصفها في القصة كـ "نسوة المدينة" والشخصيات المسطحة التي ورد وصفها بناءً على فعلها داخل النص كـ "واردهم" و"شاهد من أهلها" و"فَتْيان" و"الملك" و"القرية" وغيرها.

القصة القرآنية لا تدع الشخوص يتحركون على مسرح الأحداث دون أن تُعلل سلوكهم، فقد علل القرآن تصرفات الإخوة بالحقد الغيرة بسبب الحب، وعلل بيع القافلة ليوسف بثمن بخس بقوله تعالى: (وكانوا فيه من الزاهدين) أي لا يعرفون قيمته الحقيقية، وما سيصير إليه النبي ابن النبي هذا من تصرف في شؤون مصر. كما علل كذلك سلوك عزيز مصر العاقر في تبني يوسف بقوله تعالى: "عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا" فالعزيز وأمراته كما أورد محمد دبور في – أسس بناء القصة- كانا مسرورين بيوسف ومهيأين لاستبقائه عندهما، وأن العزيز لم يبذل جهدا كبيرا لإقناع زوجته بتعهد يوسف لعدم إنجابهما. كما علل سجن يوسف ولو "إلى حين" بحب الملك له، وأمله في أن يعتدل سلوك زوجته، وعودتها إلى رشدها.

البنية الشكلية لقصة سيدنا يوسف دائرية وأسلوب القص يقوم على تدوير السرد بدءا من عنوان السورة المعنونة بيوسف ومرورا بمتن أول القصة حين تبدأ بالحلم وقول سيدنا يوسف (.. يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين) كحدث دال على المستقبل البعيد والقريب ثم ينتهي البناء الدائري بقفلة تحقق الرؤيا وقول الكريم ابن الكريم (يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا)..

وقبل ختام السورة بقليل تتناهى جماليات الحب الذي يحقق المعجزات، فالرياح تصبح مرسال حب (ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون).. ويرد القميص على الأب بصره (اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا..)..

وإذا عرف المحب مكان ألمك وحدد وجهته، شفاك قميصه.. أو كما قال.