قراءة في قصائد عبد السلام العطاري (1 – 2)


أمين دراوشة – ناقد وأديب فلسطيني – رام الله – فلسطين

ديوان "عرّاب الريح" هو الديوان الثاني للشاعر الفلسطيني عبد السلام العطاري بعد ديوانه الأول "دوثان".
يلاحظ في هذه المجموعة الشعرية أنها متخمة بالمورثات الدينية والشعبية والأسطورية،  مما يدل على الثقافة الواسعة للشاعر وإطلاعه الكبير على ثقافات العالم المتنوعة والخصبة. وترفرف في سماءها الطيور، وتشدو بألحانها الشجية، وتشتعل الأزهار وتتضوع روائحها ويعيش القارئ بعالم ملون وحي بين كلماتها المنسابة كنبع الماء لا يصده شيء.

دفق من المشاعر الملتهبة:
إن ديوان "عرّاب الريح" بناء محكم مصنوع من الكلمات، ولكنه يشبة البناء الحقيقي المشيد من الحجارة والحديد، أساسه عميق وفيه "متانة التحام، وسلامة هندسة، ليكون بناء يُسكن..فالعواطف والانفعالات والأفكار مثل الأحياء الأحياء يسكنون في المنازل الصحيحة البناء..أما المنازل الخربة أو المتداعية فلا يسكنها غير البوم والغربان والمخلوقات الدنيا المتخلّفة". (1)
وما أكثر الشعر المبني من حجارة مغشوشة في ساحاتنا الأدبية!

توالد المعاني في قصيدة "ابن سارية الندى":
إن قصيدة "ابن سارية الندى" ولا شك هي قلب الديوان التي تخفق كطائر الشنار ناشرة شذاها بين ثنايا المجموعة، وكلما أقرائها تحدثني نفسي، لماذا لم يختارها الشاعر لتكون عنوانا لديوانه، وهي التي تحكي سنواته الحبلى بالفرح والحزن، والتجارب المريرة، فالقصيدة ما هي إلا انعكاس للواقع النفسي للشاعر.
يفتتح الشاعر قصيدته بمناداة طائر الدوّ، وكأنه يهزم وحدته، وهو الطائر الذي ولد في مخيلته، بما يعنيه من حرية لا حدود لها، الطائر الذي يحلق في الفضاءات الواسعة والبراري الشاسعة.
يحدثه بأسلوب الاستغاثة "يا طائر الدوّ"، يبث له حكاياته، هذه أغنيتي "حياتي" إذا شددت شرياني كوتر لها، تسمعك ربة الشعر صور أيامي وما يتخللها من حنين لواردات الماء بجرارهن المليئة بالماء، المغرمات بأنفسهن والعاشقات لحياتهن التي تعبق بالنرجس.
يخلط الشاعر في قصيدته قصص الأنبياء
"يا طائر الدّوّ
إن صادفتك صورتي
ألقها بجوف الحوت
وأعدني إن نبت اليقطين إلى البئر". (2)
وما بين النبي يونس والنبي يوسف عليهما السلام ثمة بشر يعبرون، يشربون من ماء البئر ويلتهمون لحمه نيئا، يغمسون صباحه بالألم.
يطالب الشاعر طائره الأسطوري، أن يرحمه ويقدم له يد العون، وأن يخفض جناحيه، ويرفعه من البئر، ويحلق به، فلا أحد يقدر على مساعدته، فالبئر أنكره والحوت بغضه، وهو:
"لست ابن العذراء
ولا الضرير البكّاء كان أبي
ولا ذاك الحوت بيتي". (3)
يقول الشاعر: إنه ليس نبيا ولا ابن أنبياء، غير أنه ابن الفجر الخفاق، ابن امرأة تمده بالحلم والنور،
"أنا ابن سارية الفجر
يحمل زوّادة من لبن الطير
مغمّسة بأصابع أمي". (4)
طعامه رغيف من جرار الليل، والجرار هي من تخبئ فيها الأم أغلى ما يملكون، والطعام الذي تنبته الأرض من غرس أهله، يجعله فوق مستوى البشر فيضيء كالشمس ويحل محل القمر إذا تاه وضل طريقه.
ينتقل بنا الشاعر من الفجر إلى الليل، ونوم الفلاح العميق بعد يوم من العمل الشاق مكشوفا، فتأتي شقيقته لتغطيه بضفائرها التي لا تشبه إلا سنابل القمح الذهبية..وتمطره بالقبل الحنونة وتدفأ حلمه.
يقول عن نفسه، أن مباهج الدنيا لم تغره ليسير خلفها، ويسير في ركب عمامات (أحزاب وأحلاف) لا تعرف غير الضغينة والغدر، وأنه يكتفي بالنوم وضميره نقي فهو ينام عندما تغلق أشجار السرو عيونها، ويتوقف نشيد الصنوبر، وينهض ونفسه الزكية تقوده إلى الحقول الخضراء المهددة بالضياع والتيه والغياب،
"يصحو على نشيد الله والبلابل
والسارحين خلف الغياب". (5)
ولا ينسى الشاعر الافتخار بأبيه، فهو ابن العلو والسؤدد وعكاز قديم، فإذا كان العكاز يدل على الشيخ المحنك المجرب، فأن الشاعر يتبعها بلفظة قديم للدلالة على جذوره الموغلة عميقا في الأرض،
"أنا ابن سارية وعكاز قديم
من زند زعرورة مسورة بجدائل
قطافات المريمية سرّاحات الزعتر
مسّاءات (جبينة) والإوزة...والدالية". (6)
يمتلك الشاعر معجم لغوي زاخر بالصور الحية، النابضة بلون والحركة، وبنى غريبة ومتميزة للجمل، ويشعر القارئ الفطن بما تتضمنه القصيدة من أصالة وفردية واللغة الفطرية السلسة. فالألفاظ والمعنى تحيلنا إلى ما يتبناه الشاعر العطاري من فلسفة في حياته يمطرنا بها بأسلوب أنيق وساحر وشفاف. وصدق ويليك حين قال: إن السياق هو الركيزة لنقدر على فهم المعنى، فالكلمة لا تحمل معناها العجمي وحسب بل هالة من المترادفات والمتجانسات. والكلمات ليس لها معنا واحدا وحسب، بل إنها تثير وتحفز كلمات تتصل فيها بالصوت أو المعنى أو بالاشتقاق، أو كلمات تناقضها أو تنفيها. فالأكيد أن الألفاظ تستلزم شيئا من التورية، والتورية ولا شك تحتوي توترا بين الكلمة والشيء، فالغرض لا يسمى مباشرة، وإنما تسرد صفاته. يقول الشاعر :
"صديق الدّوّ والقبّرات الناعسات على عشب المساء
نحرس نوم بعضنا...وأحلامنا الصغيرة". (7)
تسري بدم القارئ تلك اللذة الحسية الجمالية، عندما يقرأ ويتخيل هذه الصورة والمجاز والرمز والأسطورة، فهذه الأمور هي ما تربط الشعر بوشائج مع الموسيقى والرسم، ويحلق بعيدا عن العلم. فالأسطورة هي نقيض التاريخ أو العلم، والبشر يسترجعون الماضي بصورة بصرية، مع اختلاف واضح في درجة التخيل البصري.
في علم النفس تدل لفظة صورة على إعادة إنتاج عقلية، ذكرى ما، تجربة عاطفية قديمة، وللصورة تصنيفاتها، فهناك صور شمية وذوقية ولمسية لها علاقة بالعاطفة والانفعال. والتخيل المرافق للإحساس بالجمال الناتج عن التركيب غير السوي للشاعر، يتنقل من شعور إلى آخر، كان يترجم الصوت إلى لون، وهذا ما نراه في الصورة العذبة والأصيلة في قول الشاعر:
"يا طائر الدّوّ
غن صادفتك صورتي
ألقها بجوف الحوت
وأعدني إن نبت اليقطين إلى البئر،
ونشّقني نهد برتقالة بتول
لم يمسسها بلبل الصبّح ولا حسّون المساء". (8)
وهذه الصور الحيوية والنابضة بالحياة، ينطبق عليها قول الشاعر العظيم عزرا باوند، حيث عرف الصورة بأنها" تلك التي تقدم عقدة فكرية وعاطفية في برهة من الزمن وهي "توحيد لأفكار متفاوتة". فنرى الشاعر يطالب طائره الأسطوري بإعادة إلى البئر بعد أن ينبت اليقطين وهنا إحالة إلى نبي الله يونس ومحاولته تدفئة نفسه من البرد بعد أن قذفه الحوت إلى اليابسة بنبات اليقطين. والبئر رمز به الشاعر إلى نبي الله يوسف، وإن أخذ الرمز هنا معنى مخالف للحكاية المعروفة عن إلقاء يوسف بالبئر من قبل أخوته للتخلص منه كونه الابن المفضل لأبيه يعقوب عليه السلام. وكأني بالشاعر رمز بالبئر إلى الحكاية الأولى المتجددة، إلى البداية، بداية حياته، لذا يتمنى على طائره أن يعيده إلى الأصل إلى الطفولة، ليعود ليلثم نهد أمه الطاهرة والمقدسة، وهنا أبدع الشاعر في تكثيف الصور والمعنى العميق، فالنهد رمز الحياة والخصوبة، ويرمز هنا للأم البيولوجية، وأمنا الكبرى الأرض.
ينهي الشاعر قصيدته، بأحلام متجددة لا تموت، تنبثق دوما من الطيور والأشجار والأعشاب، يقول:
"نحبّ مزاجنا الطائش
نراكض حجلة تائهة عن عشّها
ونعيد أسراب العصافير كلّ غروب". (9)
عاطفة الشاعر تمتاز بالإخلاص والصدق ولولا ذلك لما خرج علينا بهذه القصيدة الرائعة، والذي كتبها بدافع حالته النفسية. فجعل اللغة جديدة وغريبة، لدرجة أثارت فينا المفاجأة والدهشة.
القصيدة متخمة بالصور الكثيفة والصور الخفية، التي جاءت من طيور وبساتين وحقول وبيارات الأرض الحنون، وهناك ولا ريب تماثل لا تخطئه العين بين دورة حياة النبات ودورة الحياة.
يفتقر الإنسان الآن إلى الروح الأسطورية، وأضحت الأسطورة الدينية هي مصدر المجاز الشعري على الأغلب، ولكننا بهذه القصيدة المدهشة نشعر بحاجتنا إلى شيء أسطوري وديني في آن.
**يتبع**.....

 

تعليق عبر الفيس بوك