في الذكرى السادسة والأربعين لاستشهاد غسان كنفاني:

عائد إلى حيفا: صورة المكان بين زمنين (3 - 3)


أ.د/ يوسف حطّيني – أديب فلسطيني وأكاديمي بجامعة الإمارات


ثالثاً ـ المواجهة ترسم النهايات:
إن سعيداً المكبّل بالخوف من فقدان ولده الثاني خالد، يقرر منذ اللحظة الأولى عجز موقفه وضعفه في مواجهة مريام: "طبعاً نحن لم نجئ لنقول لكِ اخرجي من هنا، ذلك يحتاج إلى حرب"، ص33؛ ويدرك أن تسوية أمر البيت لا تتم بهذه الطريقة، بل بالمواجهة التي يفهم الأعداء لغتها. وربما كان بحاجة إلى مثل هذه المواجهة، كي تتغلب قناعته على خوفه. فالذين يستوطنون البيت لا يراعون حرمة أهله: "كأنها في بيتها، تتصرف كأنها في بيتها"، ص47. ويغتصبون حتى نسب خلدون إلى أبيه:
"ـ وقت أوبته الآن. ولكنه قد يتأخّر قليلاً. لم يلتزم طوال عمره بموعد عودته إلى البيت. إنه مثل أبيه تماماً"، ص47.
ـ (...) إنها تقول مثل أبيه، وكأنّ لخلدون أباً غيرك"، ص48.
ولا بدّ أن يشار هنا إلى أنّ مريام التي تصنّعت اللطف والهدوء كانت تحتفظ بمفاجأتها المرعبة إلى اللحظة المناسبة؛ لتخبرهم أن الأوان قد فات، وأن خلدون/ دوف قد شبّ عن طوق أبوّة الدم:
"الرجل الطويل القامة خطا إلى الأمام. كان يلبس بزة عسكرية، ويحمل قبّعة بيده.
وقفز سعيد واقفاً كأن تياراً كهربائياً قذفه عن المقعد"، ص62.
ولم يكن الابن دوف (هذه المرة دوف فقط) أقلّ حدة من مريام؛ فحين يسأله سعيد:
"أنت في الجيش. من تحارب؟ لماذا؟" يجيبه: "ليس من حقّك أن تسأل هذه الأسئلة. أنت على الجانب الآخر"، ص65. ثم يجابهُ سعيداً بيهوديته التي تجعله يذهب إلى الكنيس وإلى المدرسة اليهودية ويأكل الكوشير ويدرس العبرية، ص67.
إن فعل الكلام هنا، حسب التعبير التداولي، غير متكافئ؛ ذلك أن دوف وأمه مريام يمتلكان "سلطة السياق وصلاحيتها"(1)، بوصفهما يمثّلان "المحتل الغاضب وقوة بطشه، ولكنّ هذا الفعل نفسه أدّى إلى تسريع الوصول إلى القرار من قبل سعيد/ الطرف الآخر الأضعف في الفعل الكلامي الحجاجي؛ ليجد نفسه منقاداً إلى موقف غير كلامي منتظر. بمعنى إن هذا المجتزأ من الحوار الحجاجي سرّع ظهور مؤشرات النهاية الحدثية، فالأحداث أخذت تتطور نحو نهاية سهمية لا تردّد فيها؛ إذ يتساءل سعيد عن ماهية الوطن، ثم يحاول أن يتفهّم موقف خالد من فلسطين:
•    "ما هو الوطن؟ أهو هذان المقعدان اللذان ظلّا في هذه الغرفة عشرين سنة؟ الطاولة؟ ريش الطاووس؟ صورة القدس على الجدار؟ المزلاج النحاسي؟ شجرة البلوط؟ الشرفة؟"، ص73.
•    "ما هي فلسطين بالنسبة لخالد؟ إنه لا يعرف المزهرية ولا الصورة، ولا السلّم، ولا الحليصة، ولا خلدون. ومع ذلك فهي بالنسبة له جديرة بأن بحمل المرء السلاح، ويموت في سبيلها. وبالنسبة لنا أنت وأنا، مجرد تفتيش عن شيء تحت غبار الذاكرة. وانظري ماذا وجدنا تحت ذلك الغبار. غباراً جديداً"، ص77.
وها هو ذا سعيد يخبر دوف بمواقفه تباعاً:
•    "قد تكون معركتك الأولى مع فدائي اسمه خالد، وخالد هو ابني. أرجو ان تلاحظ أنني لم أقل إنه أخوك"، 69.
•    "أتعرف لماذا أسميناه خالد، ولم نسمّه خلدون؟ لأننا كنا نتوقع العثور عليك، ولو بعد عشرين سنة. ولكن ذلك لم يحدث. لم نعثر عليك، ولا أعتقد أننا سنعثر عليك"، ص69.
•    "إن أكبر جريمة يمكن لأي إنسان أن يرتكبها، كائناً من كان، هي أن يعتقد ولو للحظة أن ضعف الآخرين وأخطاءهم هي التي تشكّل حقه في الوجود على حسابهم"، ص76.
وتأسيساً على ما سبق يتّخذ عنوان الرواية "عائد إلى حيفا" معنى جديداً؛ فإذا كان العنوان، بوصفه قصداً، يؤسس لعلاقة مفترضة مع ما هو خارجه وما هو داخله بالإضافة إلى العلاقة مع مُرسله(2)، فإنه يمكن أن يغيّر دلالته، أويعدد دلالاته، وفقاً لتلك العلاقات في لحظة سردية فارقة.  وبناء على ذلك فإنّ العنوان "عائد إلى حيفا" الذي كان تحيل مباشرة إلى عودة سعيد س أصبح وفقاً لتطور الحدث ممكن الإحالة إلى خالد أيضاً الذي من المنتظر أن يعود إليها عودة المظفّر لا عودة العاجز.
رابعاً ـ فارس اللبدة: حكاية الحكايات:
يضاف إلى المواجهة التي رسّخت قناعة سعيد بقراره حول الحرب وحول خالد حكايةُ فارس اللبدة التي يرويها لزوجته، وهي تشبه حكايات الذين زاروا بيوتهم تحت حراب الاحتلال، و"جميعهم عادوا يحملون خيبة كبيرة"، ص25.
صحيح أنّ هذه الحكاية تتموضع طباعياً داخل جسم الرواية، بمعنى أنها حكاية داخل الحكاية، ولكن يمكن أن نعدّها حكاية موازية تماماً لحكاية الرواية؛ فالحكايتان تقولان الشيء ذاته بطريقتين مختلفتين: فارس اللبدة يعود إلى منزله في حيّ العجمي في عكا؛ ليجد عربياً آخر يستأجره: "لا حاجة لتصب غضبك عليّ، فأنا عربي أيضاً، ويافاوي مثلك، وأعرفك فأنت ابن اللبدة. ادخل لنشرب قهوة"، ص54. وتبدأ أزمة الحكاية حين يدخل فارس إلى بيته الذي تركه قبل عشرين عاماً؛ ليرى صورة أخيه الشهيد بدر ما زالت على الجدار، ويكتشفَ أن مضيفه الذي استأجر البيت من بعده قد حافظ على الصورة، وسمّى ابنه بدراً على اسم الشهيد:
•    "ـ إنهما بدر وسعد ابناي.
ـ بدر؟
ـ أجل. أسميناه على اسم أخيك الشهيد"، ص57.
•    "هكذا ظلّت الصورة هنا. ظلّت جزءاً من حياتنا، أنا وزوجتي لمياء وابني بدر وابني سعد، وهو، أخوك بدر عائلة واحدة. عشنا عشرين سنة معاً"، ص58.
وبخلاف التغيرات التي يلمحها سعيد في بيته، وبرغم الأشياء الجديدة التي تعني تغيير الهوية (الجرس ـ الاسم ـ المقاعد...) فإن فارس لا يلمح تغييراً في بيته، ما يعني أن الفلسطيني يحافظ على إرث وطنه:
•    "كان البيت هو نفسه بأثاثه وترتيبه وألوان جدرانه وأشيائه التي يذكرها جيداً"، ص54.
•    "كانت غرفة الجلوس على حالها، كأنه تركها ذلك الصباح"، ص54.
•    "... على الجدار المقابل المطلي بلون أبيض متوهج كانت صورة أخيه بدر ما تزال معلقة. وحدها في الغرفة كلها"، ص54.
وتبلغ أزمة الحكاية ذروتها حين يطلب فارس الصورة من صاحب البيت؛ ولكنّ صاحب البيت ينهي الذروة بسرعة حين يقدّمها لفارس؛ ليلاحظ خلفها "مستطيلاً باهتاً من البياض لا معنى له"، ص59. وحين كاد فارس أن يصل إلى رام الله شعر بأنه لا يمتلك الحق بصورة الشهيد؛ لأنه لم يحافظ على البيت وعكا؛ ولأنه اكتشف أن تلك الصورة تفقد قيمتها عندما تغادر جدار البيت، شأنها شأن حفنة التراب حين تغادر الأرض، وحبة البرتقال حين تغادر الشجرة، وعندها يرجع مرة أخرى؛ ليعيد الصورة إلى جدارها، وليتسوعب بقية الدرس الذي تعلمه من العودة الخائبة: "وفي الليل قلت لزوجتي: إنه كان يتعيّن عليكم إذا أردتم استرداده أن تستردوا البيت ويافا ونحن"، ص60.
لذلك جاء موقف فارس في الحكاية وبعدها "إنه يحمل السلاح الآن"، ص60؛ ليعزّز موقف سعيد النهائي؛ فقد فكرّ في أن يحتضن ابنه خالد، وأن يبكي على كتفه، متبادلاً معه دور الأب وابنه، ويكفّر عن ذنبه في منعه من الالتحاق بالفدائيين، راجياً أن يكون قد التحق بهم في أثناء غيابه: "وقد ظلّ صامتاً طول الطريق، ولم يتلفّظ بأيّما شيء إلا حين وصل إلى مشارف رام الله، عندها فقط نظر إلى زوجته وقال: أرجو أن يكون خالد قد ذهب... أثناء غيابنا"، ص79.
كلمة أخيرة:
إنّ رواية "عائد إلى حيفا" لغسان كنفاني تدعو إلى نقل الذاكرة لجيل قادم يكون أكثر قدرة على المواجهة، ولكنها لا تدعو إلى الركون إلى تلك الذاكرة، والاكتفاء بالبكاء على أطلالها. وقد أدرك الأعداء خطورة هذه الرؤية، فاغتالوا الكاتب الشهيد في السادسة والثلاثين من عمره، ولكنهم لم يستطيعوا اغتيال كتاباته التي ما زالت تحتمل قراءات متعددة.
.......................
المصادر:
(1)    يؤثر موقع المتحاورين ومكانتهم وظروفهم تأثيراً بارزاً في منطوقهم. للتوسع تمكن مراجعة: د. محمد عديل عبد العزيز علي: المقاربة التدوالية لخطاب المناظرة، دار البصائر، القاهرة، ط1، 2011، ص ص125ـ127.
(2)    يرى محمد فكري الجزار أن العنوان يؤسس لعلاقته بخارجه، وعلاقته "ليس بالعمل فحسب، بل بل بمقاصد المرسل من عمله أيضاً، وهي مقاصد تتضمن صورة افتراضية للمستقبل". تمكن مراجعة: د. محمد فكري الجزار: العنوان وسيموطيقا الاتصال الأدبي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998، ص21.

 

تعليق عبر الفيس بوك