التحدّي الأصعب

 

أحمد بن سيف الهنائي

أثناء محاضراته لطلبته بكلية الشرق الأوسط، كثيراً ما ردد العبارة الشهيرة: "إن لم تستطع الحصول على معجزةٍ واحدةٍ في حياتك، كن أنت المعجزة"، إنّه من أكثر الأشخاص إيماناً بأنّ الإنسان وحده القادر على صنع المعجزات، وليست المعجزات هي من تصنع الإنسان في زمن التراخي والدعة، فهو لا ينفك عن إضافة لبنةٍ جديدة في بنيانه الذاتي كل يوم، رافعاً شعار التحدي، مؤمنا بفكرة الشاعر اللباني أنسي الحاج على الدوام: "سيبقى على الإنسان، بعد أن ينتصر على حدود المكان والزمان، أن ينتصر على حدود ذاته، التحدّي الأصعب".

كان سعود بن عبدالله النبهاني يتطلع إلى أبعد من كرسيٍ صلب بدائرة شؤون الموظفين ممارساً إشرافه على قسم التعيينات وموازنة الوظائف بالمستشفى السلطاني في أواخر القرن المنصرم، شغوفاً بالعمل، امتاز عن أقرانه بالخيال الحالم إلى البعيد، يرفض الخضوع لفكرة الاكتفاء في كل شيء، وخصوصا فيما يتعلق بتطوير الذات، وجد نفسه في القراءة متنقلاً من عالمٍ إلى آخر.. حدّث نفسه أنّ يصبح أستاذا جامعياً في ذات نهارٍ من عام 2009م، رئاسة قسم البريد والوثائق بالمديرية العامة للخدمات الصحية بمحافظة الداخلية أغرته في دراسة الوثائق والمحفوظات أكاديمياً، وهنا بدأ الرهان، رهان النبهاني في التفوق، يومها كان يلوك عبارة القصيمي ليله ونهاره، متخذاً منها سراجاً وهّاجا للهداية، صادحاً بها في أعماقه المنتفضة: "إنّ أعظم شيءٍ يتفوق به الإنسان على كل ما في الوجود هي موهبة التحدي".

أن تعمل في نزوى، وتضطر للذهاب إلى مسقط كل يوم، لتدرس بشكلٍ منظم لمدة أربع ساعات، وتعود أدراجك مرةً أخرى، لهو أمرٌ بالغ الصعوبة، لكن النبهاني فعلها حقاً، يخرج بعد انتهاء عمله لا إلى المنزل لأخذ القيلولة، وإنما يذرع شارعاً ممتدا لأكثر من 300 كيلو متراً جيئةً وذهاباً، فالجدول اليومي موسومٌ برحلةٍ طويلة، تبدأ من بهلا فجراً جهة المديرية العامة للخدمات الصحية بنزوى، انطلاقاً إلى كلية الشرق الأوسط بمسقط، ثم العودة بعد انتهاء الدراسة في الثامنة ليلاً إلى بهلا، فمن أيِّ طينةٍ خلق هذا الكائن الذي يرفض الاستسلام، أي أنه يقطع في الشهر أكثر من 6000 كيلو متر من أجل الدراسة، وهو ملتزم بساعات الدوام الثمان الرسميّة لم يغب يوما عنها بداعي التعب والإنهاك.

المثير في الأمر، وخلال السنوات الأربع، كان النبهاني بعد الرحلة الطويلة الشاقة، يخصص ساعة كاملة لاستذكار دروسه، من ثم يسلّم جسده المثقل بالآمال للسرير، وكأنك تتسائل عن ساعات يومه كيف يقسمها، بين ثمانٍ للعمل وأربعٍ للطريق ومثلها للدراسة، وما تبقى لالتزامات الحياة الأخرى، من كانت هذه همته، هل ستكون مفاجأة لك إن علمت أنّه كان الأول على دفعته طيلة الأربع سنوات الماضية؟ شاءت الأقدار أنّ ألتقي به يوماً وهو يهمّ بالعودة إلى بهلاء بعد آخر محاضرةٍ قدمها لطلابه بالكلية، فسألته مندهشاً عن هذا الصمود في معركة المسافة الطويلة التي يقطعها كل يوم، وهذه المرة لأجل أن يضع بصمته في نفوس طلابه، كان رده مثيراً، وعرفت بعدها سر هذا الصمود والتوهج، قال لي حينئذ: إنني أشارك في البناء، بناء الذات يحتاج إلى الكثير، والوطن أيضاً يستحق البناء، لقد تأثرت وأنا أقرأ كتاب "العرب من وجهة نظر يابانية" بالكثير من الأفكار، وظلت إحدى العبارات ماثلةً في ذهني طويلاً، إذ يقول صاحب الكتاب: "مرة كنت عائدا إلى الفندق في وسط "طوكيو" حوالي منتصف الليل، ورأيت عاملا يعمل وحيدا، فوقفت أراقبه لم يكن معه أحد، ولم يكن يراقبه أحد ومع ذلك كان يعمل بجد ومثابرة كما لو أنّ العمل ملكه هو نفسه، عندئذ عرفت سبب نهوض اليابان وهو شعور ذلك العامل بالمسؤولية النابعة من داخله بلا رقابة ولا قسر، عندما يتصرّف شعب بكامله مثل ذلك العامل فإنّ ذلك الشعب جدير بأن يحقق ما حققتموه في اليابان".

يمثل هذا الرجل الكاريزما الجادة للشاب العماني الطامح لوضع بصمته في المجتمع، وهو ما جعل النبهاني على أعتاب تأسيس أول جمعيّة للوثائقيين بالسلطنة، من يقترب منه يدرك ما معني أن يخلق الإنسان لنفسه مناخاً للتحدي، لم يثنه شيءٌ أبداً عن الوصول للوجهة التي يريدها، ولا غرابة في أن يكون النبهاني شمعةً مضيئة في محيطه، مؤثراً وفاعلاً في نفوس وقلوب محبيه، حتى لكأنك تشعر أنّ الرجل لا يعيش حياته إلا بفتيل الطموح ووقود الرغبة في تحطيم براويز المحال.