في الذكرى السادسة والأربعين لاستشهاد غسان كنفاني

عائد إلى حيفا: صورة المكان بين زمنين (2 - 3)


أ.د/ يوسف حطّيني – أديب وأكاديمي فلسطيني بجامعة الإمارات

 

إذا كانت هذه الرواية تحكي جزءاً مهماً جداً من تاريخ فلسطين، وتكشف بعض نتائج الحلف التاريخي الغاشم بين الصهاينة والبريطانيين؛ فإنّ التاريخ نفسه يقدّم إلينا من خلال ذاكرة الشخصية؛ ذلك أنه "عندما تقصر المسافة الزمنية بين الذاكرة والتاريخ، بل عندما تنعدم بفعل استمرار الحدث ـ المأساة وضغط تداعياته ووطأته، بل كابوسه الدائم الرابض على العقل والقلب والإدراك والمخيال، وعلى الوعي واللاوعي، فإنّ شريط الذاكرة ينشط في تسجيل خطوط الصورة كلّها وألوانها وتفصيلاتها(1)".
ثانياً ـ الرواية: التاريخ والذاكرة:
ها هنا، وفي هذه الرواية، يصبح التاريخ ذاكرة، ويحتمل أسئلة متعدده حول ماهيتها وطبيعتها: أهي ما يختزنه البصر والحواس كافة؟ أم ما يختزنه القلب، وما يقرّ في الروح والنفس والوجدان؟ أم ما تختزنه الجينات التي تنتقل من جيل إلى جيل؟
المكان الأساسي في الرواية ثابت، والمتحوّل هو الزمن الذي نقل المكان من حيّز الضوء إلى حيّز الظلام المرتبط بسقوط حيفا منذ عام النكبة، وحتى النكسة، حيث يغلق الزمن الروائي حكاية الرواية.
ذاكرة الضوء تنبع من أي ارتداد زمني إلى ما قبل عام 1948، وترتبط بالمكان الأليف ارتباطاً وثيقاً: إن حيفا في ذلك الزمن يعرفها وتعرفه، بخلاف حيفا التي رآها بعد عشرين عاماً (حيث قال: إنها تنكره)، إنها حيفا/ الأليفة التي "يعرفها حجراً حجراً، ومفرقاً وراء مفرق، فلطالما شق تلك الطريق بسيارته الفورد الخضراء موديل 1946 (...)، وأخذت الأسماء تنهال في رأسه، كما لو أنها تنفض عنها طبقة كثيفة من الغبار: وادي النسناس، شارع الملك فيصل، ساحة الحناطير، الحليصة، الهادار..." ص9. وها هي ذي تتدفق عبر ذاكرته الحية، وهو في الطريق إلى بيته، حتى بأشجار السرو الثلاث التي تنحني قليلاً فوق الشارع: "ورغب أن يتوقف لحظة كي يقرأ على جذوعها أسماء محفورة منذ زمن، ويكاد يتذكذرها واحداً واحداً"، ص26.
التفاصيل كلّها تقفز إلى ساحة الذاكرة في طريق العودة/ الزائفة إلى البيت، فكلّ تفصيل صغير يذكره تماماً، ولعلّ في وصف مدخل البيت أبلغ تعبير عن انشداد سعيد نحو ذلك الماضي:
"وبدأا يصعدان دون أن يترك لنفسه أو لها فرصة النظر إلى الأشياء الصغيرة التي كان يعرف أنها ستخضّهُ وتفقده اتزانه: الجرس، ولاقطة الباب النحاسيّة، وخربشات أقلام الرصاص على الحائط، وصندوق الكهرباء، والدرجة الرابعة المكسورة من وسطها، وحاجز السلّم المقوس الناعم الذي تنزلق عليه الكفّ، وشبابيك المصاطب ذات الحديد المتصالب، والطابق الأوّل حيث كان يعيش محجوب السعدي، وحيث كان الباب يظلُّ موارباً دائماً، والأطفال يلعبون أمام الدار دائماً، ويملؤون الدرج صراخاً، إلى الباب الخشبيّ المغلق، المدهون حديثاً، والمغلق بإحكام"، ص ص27-28.
ويحتلّ هذا الوصف للمدخل أهمية كبرى لدى سعيد وزوجته، إنه الخطوة الأولى نحو البيت، بما يعنيه من الولادة الأولى والملاذ الأول؛ ذلك أنّ "البيت هو ركننا في العالم. إنّه، كما قيل مراراً، كونُنا الأول(2)". فالأمن والحماية مرتبطان به، ومن فقد بيته، فقدَ الحماية. وفي حالة سعيد وزوجته يعني شيئاً مختلفاً تماماً، لأنّ ما بعد عتبة البيت مؤهل تماماً للازواجية والتقاطب، والانفتاح على ثنائية زمنية متعارضة هي الماضي والحاضر. وعلى الرغم من غنى هذا المقطع الوصفي، فإن وهج الذكرى ينطفئ بموجب تلك الثنائية؛ ليتيح لحيّز الظلام أن يمتدّ بمجرد الوصول إلى الباب:
"ـ غيّروا الجرس.
وسكت قليلاً ثم تابع:
ـ والاسم طبعاً"، ص28.
ها هنا يقف سعيد على حافة زمنين، لقد غيروا اسمه، مثلما غيروا اسم حيفا وفلسطين، وحاولوا تزييف هوية المكان، كي يعلن المقتبس السابق بكل وضوح الانتقال إلى الزمن الآخر، حيث يتحوّل المكان الأليف إلى ورد تملؤه الأشواك.
ثمة إذاً بين الزمن المضيء والزمن المظلم، والمكان الأليف والمكان المعادي برزخ تقفز معالمه بين حين وآخر، فإلى جانب جرس الباب والاسم/ الهوية ملامح تأثيثية تشير إلى الأشواك التي التصقت بالوردة الفلسطينية؛ فالطاولة المرصّعة بالصدف صار لونها باهتاً، ص30، والأعواد السبعة لريش الطاووس في المزهرية: "كانت خمسة فقط"، ص30، وقد استطاع سعيد "أن يرى مقعدين من أصل خمسة مقاعد هما من الطقم الذي كان له، أما المقاعد الثلاثة الأخرى فكانت جديدة، وبدت هناك فظة، وغير متسقة مع الأثاث"، ص30.
الجرس والريشتان واللون الباهت للمنضدة، والمقاعد الثلاثة تحوّلت من إشارات تربط بين الدال والمدلول إلى رموز يقوم الذهن بتفسيرها بطريقة اصطلاحية(3)، وذلك لمجرّد انتمائها إلى المكان المعادي الذي يسعى إلى اقتلاع المكان الأليف، وقد بدا إحساس سعيد بمعاداة ذلك المكان، أو بعدم ألفته على الأقل، في زمن حكائي مبكر؛ إذ قال في سياقات سردية تنتمي إلى ما قبل العقدة:
•    "لا أريد الذهاب إلى حيفا، إن ذلك ذلّ. وهو إن كان ذلاً واحداً لأهل حيفا، فالنسبة لي ولك هو ذلان"، ص23.
•    "وخطر له أن يقول لزوجته: إنني أعرفها حيفا هذه، ولكنّها تنكرني"، ص7.
•    وحين تقول له زوجته: "لم أكن أتصور أنني سأراها مرة أخرى"، يردّ قائلاً: "أنت لا ترينها، هم يرونها لك"، ص8.
حتى إنه يشعر بغربة بيته عنه، وكأنّ هذا البيت يرفض أن يكون صاحبه متسولاً وعاجزاً، فهو يقول لصفية: "هذا بيتنا. هل تتصورين ذلك؟ إنه ينكرنا. ألا ينتابك هذا الشعور؟ إنني أعتقد أن الأمر نفسه سيحدث مع خلدون. وسترين."،  ص50.
هذه الريبة المشروعة التي بدأت مع سعيد منذ بدأ الرحلة، تستند إلى وعي فكري ناضج، ولكنه مغطىً بطبقة من صدأ الأبوة، هذا الصدأ الذي دفعه إلى منع ابنه خالد من الالتحاق بالفدائيين، وجاء ابنه الآخر خلدون/ دوف؛ لكي يكشطه عن قلبه وعقله. وقد تجلّى هذا الوعي في بداية رحلته، حين حدّث زوجته عن بوابة مندلبوم التي فتحها الأعداء في وجوه أصحاب البيوت، لا لكي يعودوا إليها، بل لكي يتحسروا على أنهم كانوا يملكونها. إنها البوابة التي يفتحها الإسرائيليون، وقد انتظر سعيد عشرين عاماً أن تُفتحَ من الجهة الأخرى:
"طوال عشرين سنة كنت أتصور أن بوابة مندلبوم ستفتح ذات يوم، ولكن أبداً أبداً لم أتصور أنها ستقتح من الناحية الأخرى. لم يكن ذلك يخطر لي على بال، ولذلك حين فتحوها هم بدا لي الأمر مرعباً وسخيفاً، وإلى حد كبير مهيناً تماماً... قد أكون مجنوناً لو قلت لك: إنّ كلّ الأبواب يجب ألا تفتح إلا من جهة واحدة"، ص7.
..........................
المصادر:
1)    وجيه كوثراني: الذاكرة والتاريخ في مشوار شفيق الحوت ـ من يافا إلى بيروت، مجلة الدراسات الفلسطينية، بيروت، العدد 95، صيف 2013، ص ص35ـ36.
2)    غاستون باشلار: جماليات المكان، ص36.
3)    نشير هنا إلى تطوّر مفهوم العلامة وفقاً لطبيعتها وسياقها، وللاطلاع على بعض المفاهيم العلاماتية تمكن مراجعة كتاب "فلسفة العلامة"، وبشكل خاص مفاهيم علامات الموضوع عند تشارلز بيرس:
4)    د. رسول محمّد رسول: فلسفة العلامة من جون سانت توماس إلى جيل دولوز، وزارة الثقافة، بغداد، ط1، 2015، ص ص 107ـ 133، وبشكل خاص125 و131.

 

تعليق عبر الفيس بوك