في الذكرى السادسة والأربعين لاستشهاد غسان كنفاني:

عائد إلى حيفا: صورة المكان بين زمنين (1- 3)

 


أ.د/ يوسف حطّيني – أديب وأكاديمي فلسطيني بجامعة الإمارات


تعودُ بيَ الذّاكرة سنواتٍ إلى الوراء، حين حمل لي صديقي حفنة من تراب فلسطين وأراد أن تكون مفاجأة لي، ظانّاً أنني سأحتضنها وأقبلها. غير أنني خيبتُ ظنه حين شكرته ورفضت أخذها. أخبرته يومها: إنها لا تساوي شيئاً حين تُحمل إلى المنفى.
قلت له يومذاك: لن تصلك فكرتي، حتى تقرأ غسان كنفاني(1)، وكنت أقصد رواية "عائد إلى حيفا(2)" بالذات؛ فتلك الرواية تضع الذاكرة في ميزان الرؤيا، وتصحح ـ بشكل مبكّر ـ النظرة العاجزة نحو الوطن: فهو أكثر بكثير من ذكريات نحتفظ بها عنه، كما يقول سعيد. س بطل الرواية.
أولاً ـ الطريق إلى البحر:
عائد إلى حيفا رواية العودة الزائفة المُهينة إلى البيت، تحكي حكاية سعيد. س وزوجته صفية اللذين قررا أن يسافرا بعد نكسة حزيران 1967 من رام الله إلى حيفا؛ ليزورا بيتهما ويشاهدا ابنهما خلدون الذي خلّفاه وراءهما رضيعاً عام 1948. ذلك الابن الذي يقدّم غسان كنفاني استذكاراً ضافياً ومؤلماً؛ ليبين أن بقاءه في سريره لم يكن إلا نتيجة المؤامرة الكبرى التي اشترك فيها الصهيوني مع البريطاني ضد الشعب الفلسطيني.
ففي صباح 21 نيسان عام 1948، "كانت حيفا مدينة لا تتوقع شيئاً، رغم أنّها كانت محكومة بتوتر غامض"، ص11. وحين بدأ القصفُ فضّلت صفية زوجة سعيد أن تنتظره في البيت، وحين اقترب القصف واشتدّ، تركت طفلها النائم في السرير، ونزلت إلى الشارع لتسأل أصحاب السيارات عن زوجها، وعن الطريق وعن إمكانية وصوله إلى البيت في هذه الظروف؛ لتجد نفسها في حشد بشري لا يُردّ نحو اتجاه وحيد:
"وفجأة رأت نفسها في موج الناس يدفعونها، وهم يندفعون من شتى أرجاء المدينة في سيلهم العرم الجبار الذي لا يمكن ردّه، كأنها محمولة على نهر متدفق مثل عود من القش"، ص17. وتماماً مثلما وجدت صفية نفسها في ذلك الزحام وجد سعيد نفسه فيه: "وبعد لحظات شعر سعيد أنه يندفع دونما اتجاه، وأنّ الأزقة المغلقة بالمتاريس أو بالرصاص أو بالجنود إنما تدفعه دون أن يحسّ نحو اتجاه وحيد"، ص11-12. وهكذا في حمأة محاولات العودة إلى منزله، كان الجنود البريطانيون يسدون بعض المنافذ ويفتحون منافذ أخرى، ليجعلوا الطريق المتاح الوحيد يقود إلى البحر: "ليس يدري كم من الساعات أمضى وهو يركض في شوارعها، مرتداً عن شارع إلى شارع. أما الآن فقد بات واضحاً أنهم يدفعونه نحو الميناء"، ص14. لقد حاول سعيد، مثلما حاولت صفية، أن يعودَ في الاتجاه المعاكس، فوجد نفسه "مثل من يسبح ضدر سيل هادر، ينحدر من جبل شديد العلو"، ص15، أما هي فقد توقفت؛ لتغيّر اتجاهها، فصارت مثل "شجرة انبثقت فجأة في مجرى سيل هائل من الماء"، ص18.
هو الطريق إلى البحر إذاً، إلى المنفى الذي رسمته لهما أيدي البريطانيين والصهاينة، حيث كانت السفن تنتظر في الميناء. ولم يستوعبا حقيقة ما جرى إلا حين رأيا نفسيهما محمولين وسط الزحام. وقد أدركا أنهما فقدا كل شيء: حيفا والبيت وخلدون، حين "نظرا إلى الشاطئ، حيث كانت حيفا تغيم وراء غبش المساء وغبش الدموع"، ص19.
هذا التأثيث البصري الحركي الذي يشرح بكل ألم يومَ إخراج أهل حيفا منها، رافقه تأثيث صوتي(3)، أتى؛ ليسهم في رسم صورة دامعة لذلك اليوم، فسعيد "ما يزال يذكر كيف أنه كان يتجه نحو البحر، وكأنه محمول وسط الزحام الباكي"، ص15. وما زال يذكر أيضاً "الدخان والعويل ودوي القنابل وزخات الرصاص تمتزج أصواتها بالصراخ وهدير البحر وزحف الخطوات الضائعة وضرب المجاديف على سطح الموج"، ص16. أما صفية التي رأت زوجها وسط الزحام المحمول نحو البحر فلم تجد أمام عجزها وتعبها إلا أن تصرخ "بكل ما في حنجرتها من قوة، ولم تكن كلماتها الطائرة فوق ذلك الزحام الذي لا ينتهي لتصل إلى أيّ أذن. لقد رددت كلمة خلدون ألف مرة.. مليون مرة.. وظلّت شهوراً بعد ذلك تحمل في فمها صوتاً مبحوحاً مجرّحاً، لا يكاد يُسمع"، ص18.
وعلى الرغم من الظروف التي تشرحها الرواية؛ لتكشف أن ترك الطفل الرضيع لم يكن خيار سعيد وصفية، فإنها تكون حاسمة في تجسيد خطأ الوالدين اللذين كان يجب ألا يتركا الولد والبيت وحيفا، وفقاً لرؤية الرواية، ووفقاً لكلام سعيد وابنه خلدون/ دوف الذي صار جندياً احتياطياً في الجيش الإسرائيلي، على نحو ما يبرز السياقان اللذان ينقلان على التوالي حواراً بين سعيد وزوجته، وخطاباً غير مشفّر يوجهه الابن/ العدوّ لأبيه:
•    "ـ لقد بدأت الجريمة قبل عشرين سنة، ولا بد من دفع الثمن. بدأت حين تركناه هنا.
ـ ولكننا لم نتركه. أنت تعرف.
ـ بلى. كان علينا ألا نترك شيئاً. خلدون والمنزل وحيفا".ص50.
•    "كان عليكم ألا تخرجوا من حيفا. وإذا لم يكن ذلك ممكناً، فقد كان عليكم بأيّ ثمن ألا تتركوا طفلاً رضيعاً في السرير. وإذا كان هذا مستحيلاً أيضاً فقد كان عليكم ألا تكفّوا عن محاولة العودة"، ص73.
لقد استوعب الأب سعيد هذا الدرس حتى قبل أن يرى خلدون/ دوف وقبل أن يحدثه، فقد أخبر زوجته أن "حيفا تنكرهما" لأنهما عادا خائبين، وأخبرها بحكاية فارس اللبدة، وهي جميعها تفاصيل تؤشر إلى أنّ استعادة الوطن هي الطريق لاستعادة كلّ ما فيه ومن فيه. لذلك يقول سعيد لدوف/ خلدون ولأمه/ مريام البولونية قبل أن يخرج مع صفية من الباب:
"تستطيعان مؤقتاً البقاء في بيتنا، فذلك أمر تحتاج تسويته إلى حرب"، ص78.
..........................
المصادر:
(1)    غسان كنفاني (1936ـ 1972) روائي وقاص وصحفي فلسطيني، استشهد عندما فجّر عملاء المخابرات الإسرائيلية سيارته في بيروت في 8/ 7/ 1972. له ثمانية عشر كتاباً بين روايات وقصص ومسرحيات ونقد أدبي.
(2)    غسان كنفاني: عائد إلى حيفا، مؤسسة غسان كنفاني الثقافية، ومنشورات الرمال (قبرص)، 2015. (صدرت الطبعة الأولى عام 1969م).
(3)    يُذكر هنا أن التأثيث البصري هو الذي يغلب على تقديم الأمكنة في السرد العربي، وقلّما يتم الالتفات إلى التأثيث بمحفّزات الحواس الأخرى كالصوت والرائحة، وكان يمكن لهذا الالتفات أن يغني الأمكنة أيّما إغناء.

 

تعليق عبر الفيس بوك