كيانات لتخريج طلاب أم مؤسسات لإنتاج الأفكار!

د. سيف بن ناصر المعمري

أما آن لنا أن نتساءل ما الذي نريده بالفعل من الجامعات والكليات؟ قد يبدو السؤال ساذجا ولا معنى له، لأنّ هذه المؤسسات وُجدت ببساطة من أجل تعليم الطلبة وإعداد المورد البشري الذي نحتاجه لنصنع دولة عظيمة في إنسانها، ومؤسساتها، وفكرها، وإنتاجها، واكتفائها، وإبداعها، وصناعتها، وتكنولوجيتها.

وقوة هذه الدولة رهن بالإجابة عن هذا السؤال الذي آن الأوان بالفعل لطرحه سيما في هذا الموسم الذي تتجه فيه أفواج من عشرات الآلاف من الطلبة للالتحاق بمؤسسات التعليم العالي، يتساوى في ذلك من لديه استعداد ومن ليس لديه، ومن يملك القدرة والكفاءة ومن لا يملكها، ومن حصل على نسبة كبيرة ومن لم يحصل عليها، والسبب في ذلك أن الأبواب إلى الجامعات والكليات أصبحت مفتوحة على مصراعيها للجميع، يمكن أن يدخلوها من كل مكان، بل أنها أصبحت في الولايات والمحافظات بل في بعض المناطق هناك أكثر من كلية تجاور بعضها البعض، لا يفصلها إلا سور من أسمنت، قد يقول البعض إنّ هذا شيء إيجابي ونقلة كبيرة تستحق الإشادة والتبجيل، فحق التعليم أصبح متاحا لمن يرغب ولمن لا يرغب، ولكن الإشكالية في السؤال في الأعلى لماذا ما الذي نريده من تعبيد الطريق لهذه المؤسسات؟ هل نريدها مؤسسات حواضن لتخريج طلاب بالآلاف بغض النظر عن نوعيتها ومناعتها، وفائدتها الصحية، وقدرتها على المرور من مختلف الحدود إلى دول العالم كما تمر منتجات دول أخرى نتيجة السمعة التي اكتسبتها، أما نريدها لشيء أسمى وهو تيسير ولادة الأفكار الجديدة التي يمكن أن نخلق بها مستقبلا أفضل، ويمكن بها أن نغير من طبيعة التعليم في بلدنا، ومن نمط ريادة الأعمال، ومن طبيعة الصناعات، وزيادة نسبة الابتكار، وخلق مجتمع معرفي جاذب، يوجد لنا التطبيقات بدلاً من  أن نستوردها، وبالتالي تسبق الجامعات والكليات بقية المؤسسات بأفكارها ونمط إدراتها، وأنظمتها، وتجعل  من يزورها منبهرا بما يجري فيها من طلبة وأساتذة وفصول وتوظيف للتكنولوجيا، تكون المكان المبهر، بقعة الضوء الكبيرة التي يراها الجميع قنديل الأمل في الغد، فيشعرون باطمئنان كبير أن أولئك الموجودين في تلك المؤسسات قادرون على  إعداد صفوة تنهض بالمجتمع.

إن السؤال يلح علينا في التفكير إن كانت الغاية من هذه المؤسسات هي بناء صفوة متميزة من الطلبة، إذن لم كل الأبواب أصبحت سهلة لمن يرغبون في الدخول إليها، مهما وضعت بعض المؤسسات من اختبارات للقدرات إلا أن من لا يجد طريقاً في كلية أو جامعة يجده في الجامعة التي تجاورها، وبالتالي الجميع يدخل. وأول عملية جراحية تقوم بها هذه المؤسسات لهذه الأفواج هو انتشالها من عدم صلاحيتها للدخول لهذه المؤسسات من خلال تقديم برنامج تأسيسي لا يستثنى منه إلا القليل جدا، منهم من يتمكن من العبور بسرعة ومنهم من يحتاج وقتا طويلا، ولكن في النهاية الجميع لابد أن يمر، وهي القاعدة التي يبدو أنها تدمر التعليم عندنا على كافة المستويات؛ لابد أن ينجح الجميع، ويتخرج الجميع!! وإن كانت الاختبارات من وجهة نظر الطلبة صعبة، يطالب الأساتذة بتيسيرها للطلبة، وإن كانت المتطلبات متعددة يطالب الأساتذة بتخفيف المنهج، والمتطلبات لكي يرضي المؤسسة التي تريد أن ترضي الطالب، وبالتالي خفننا على الطالب كل شيء، الدخول إلى الكليات والجامعات، والتخرج فيها، لا توجد مشقة كبيرة أمام هؤلاء الطلبة، وبالتالي يتخرج كثير من الطلبة ولا يشعرون أنهم تعلموا الكثير، لا في المعارف الأكاديمية، ولا القيم، ولا الطموح، لم يتعلموا كيف يقاتلون أثناء الدراسة لكي يظفروا بالشهادة ويعبروا لأن الأبواب مفتوحة يمكن أن يمر منها أي أحد، ولأن هذا ما تعلمه الطالب في هذه الأماكن يظل يحتاج إلى من يفتح له الأبواب ويساعده على الوقوف سواء كان ذلك الأسرة أو الحكومة، لم يتعلم كيف يعتمد على نفسه، ولم يعلم كيف يتحمل المسؤولية، أو العمل المجهد، وبالتالي يتخرج غريقا بدلا من أن يتخرج غواصا يستطيع أن يسبح في كل بحر وينقذ غيره من الذي تواجههم الإشكاليات من مجتمعه وأفراد وطنه.

وهذا ما يدفع بالفعل على التساؤل، إلى أين نقود أهم المؤسسات لدينا؟ وإلى أين تقود هذه المؤسسات هذه الأجيال؟ ولكن السؤال الأهم من السؤالين هو إلى أين يجب أن تقود الحكومة وهي المسيطرة على مختلف خيوط هذا القطاع هذه المؤسسات؟ هل ستدعها تتخلى عن وظيفة إنتاج الأفكار والمواهب من أجل أن تكون متاحة للجميع، وفي النهاية لا يعمل إلا القلة القليلة من هؤلاء الخريجين في نفس مجالات تخصصاتهم، ولو تتبعنا الوظائف التي التحق بها الخريجون في الأشهر الأخيرة وعددهم حسب الإحصاء الرسمي يزيد عن خمسة وعشرين ألفاً لوجدنا أن غالبيتهم في وظائف خارج تخصصاتهم؟ إذن ما الأثر الذي نتج عن مرورهم بالجامعات والكليات؟ وإذا وجدنا اليوم كثيرا من الآباء والأمهات يعانون من الإنفاق على أبنائهم وبناتهم الخريجين وهم نائمون، إذن ما الأثر الذي تركته هذه المؤسسات في بناء شخصياتهم وتحفيز الاستقلالية والاعتماد على الذات لديهم، إن المؤسسات التعليمية الجامعية هي مؤسسات عظيمة ولا يجب أن تترك لتنزل من علوها وتكون فضاء ينضم إليه من يشاء، ويتخرج فيها من يشاء، دون أن يكون لديها معايير الضبط والفرز والتحدي والتميز الذي تحتاجها المجتمعات لتتحرك للأمام ولتواكب، وإلا فإنَّ الحديث عن مرحلة الذكاء الاصطناعي وأهمية مواكبتها بهذه الرؤية يبدو حلما كبيرا لا يمكن أن يتحقق في هذه الأماكن، دون إجراء إصلاحات جوهرية جدا، قامت بها غيرنا من الدول الكبرى حين وجدت مؤسساتها تمر بمثل هذه الأوضاع.