(الرؤية والأداة في ديوانه "قبل الشتات"):

تجليات الذات والوطن فى شعر محروس بُـرَيِّك (2- 2)

...
...
...

د. مصطفى محمد أبو طاحون
أستاذ الأدب والنقد المساعد - كلية الآداب – جامعة المنوفية - مصر

 

    2/4 وبمثل ما كانت تقانة التكرار منشغلة بالحبيبين، قبل غيرهما في إبراز صدق الحب وعفافه، كانت تقانة المقابلة، وهي الكاشفة عن تناقض ظاهر بين عناصر الوجود، وربما كان لهذا التناقض تمثُّلاته الإنسانية النبيلة بالذات المفردة، على نحو ما نلقى في تعريف (بريك) لذاته بمفتتح الديوان بنتفته التي عنوانها (أنا ص5) الكاشفة عن روح يهذِّبها الألم، ويرقى بها، فلا يقوى على إخفاء ابتسامته المشرقة.. وهكذا تصارع الذات ذاتها، بين خوفٍ ورجاء أو ألم وأمل، يمثلان نفحات الروح المبدعة، ولفحات الواقع المؤلمة.. يقول:
وُلِدْتُ مُبْتَسِمًا وفي الحَشَا ألَمٌ
كم أستعينُ على الآلام بالضَّحِكِ
//
لا ينقضي ألمي .. لا ينتهي ضَحِكِي
فالعقلُ في شَرَكٍ، والقلبُ في شَرَكِ

    اتكأ المبدع على المقابلة أحيانًا لتجسيد تناقضات المرأة وتحولات وجدانها الفجائية، وأنهن جميعهن قلُّبٌ! خاصة الحبيبات، بما ينسحب أحيانًا على تحولات الحبيب هو الآخر.. أو على رؤية الحبيبة له في تصوراتها المضطربة! والمقابلة إذ ذاك سياقية لا لغوية، يتقابل فيها المفرد (الندي) بالتعبير (يهدرن موجًا من غضب).
   وكذا يتقابل التركيب الإضافي (خير فتى) بالكنية (أبو لهب). كما يتقابل دالا (السكون، والصخب). يقول في (نار الصخب ص129) :
أمر النساء عجَبٌ
يا صاحبي
 أيُّ عجَبْ
هنَّ النَّدى على الورود هادئًا
وفجأةً.. يَهْدِرْنَ موجًا من غَضَبْ
هنَّ السكونُ في الضحى
في جوفه نارُ الصَّخَبْ
وأنتَ دومًا حائرٌ
مُمَزَّقٌ بين المِزاجِ المُضطرِبْ
فتارة خيرُ فتىً
وتارة أبو لَهَبْ
     وربما امتطى المبدع صهوة المقابلة، ليسرع إلى الكشف عن تحويل الحبِّ حياتَهُ للأجمل، كما في (رسا زورقي ص64) إذ يقول:
قد جئتُ شطَّكِ مثقلاً بالأمنياتْ
ماضٍ يئِنُّ من الجراح النازفاتْ
//
ورَسَا بعينيكِ الجميلةِ زورقي
فإذا جراحُ العُمر تغدو أغنياتْ
//
     وبين الحبيبين يؤول شيء من الأعمال ربما إلى نقيضها، لحسن ظنهما، وتغافرهما، وتسهم دهشة التأثر بجمال الحبيب في بناء المقابلة أحيانًا، حينما يعجز كلامه عن الوفاء بوصف حسنها والتعبير عن هيامه به. ذلك في ختام (ليس الهوى بحرام ص67) حين يقول:
سأظلُّ أنشد في هواك قصيدتي
يا نبعَ عذب الشعر والإلهامِ
//
(فإذا وقفتُ أمام حسنكِ صامتًا)
فَلْتَعْلَمِي أنَّ السكوتَ كلامي

     2/5 يمتلك (بريك) في (قبل الشتات) قدرة ممتازة على السرد، وهو يقصد من سردية شعره، وشعرية سرده دومًا إلى قيمة نبيلة يحاول تثبيتها بوجدان المتلقي في معركة الوعي الكبرى.. ويكون ذلك في كثير من الأحيان، عبر رمزية شفيفة دالة، تتخذ عالم الحيوان أو عالم الآخر قناعًا إبداعيًّا تجمل به الفكرة، وبالديوان نصوص كُثْرٌ، تعتمد السرد تقانة إلى مقاصد إبداعية، تتجلى للمتلقي، وكثيرًا ما احتفظ المبدع (بريك) بلحظة التنوير السردية لنهاية النص.. يتخذ من مفارقية ثنائية (الذئب " الغادر المعتدي" والحَمَلِ "الوديع المخدوع") قناعًا لقصده الإبداعي، فيقول في قصيدته (الذئب والحَمَل ص131) على مجزوء الرجز، مستصحبًا ربما المقاصدية التعليمية لبحر الرجز:
في ساعةٍ ذاتِ وَجَلْ
الذئبُ قال للحَمَلْ
//
وصوتُهُ مُغَمْغِمٌ
ودمعتان في المُقَل
//
هذي الخرافُ سيدي
أخشى عليهنَّ الدَّجَلْ
//
فالكافرون أفسدوا
وأكثروا بنا العِللْ
//
وديـننا مُحـرَّفٌ
وذاك ما لا يُحْتَمَلْ
//
ردَّ الخروف شاكرًا
أكرِمْ بذئبنا الرجلْ
//
لا تُبْقِ منهم أحدًا
دقَّتْ سُوَيعَةُ العملْ
//
وعندما أتى المسا
ءُ، والضياءُ قد رحلْ
//
الذئبُ عاد ضاحكًا
وخلفه ألفُ هُبَلْ

والسردية الشعرية هنا، تحمل من ملامح السرد الشعري أمارات الأزمة والحوار وتصاعد الصراع والحل وفيها ما يقرر:
(1)     أن القطيع لا ينقصه الوعي بمخاطر أعدائه من غير جنسه، هو يعلَمُهُم ويفهم تحرشاتهم به، لكنه ينقصه الوعي بمخاطر بني جنسه، ممن تولوا أمره وناموا عن القيام بواجبهم؛ جهلاً أحيانًا أو كسلاً وجبنًا، وعمالة في أكثر الأحيان، كما ينقصه التحرك بإيجابية لحماية ذاته ومصالحه.
(2)     يسهم (السيد) في تنويم القطيع، لا إيقاظه، بما يفوِّت كل فرصة سانحة، يمكنها أن تسعف القطيع على القضاء على عدوِّه دون كلفة باهظة.
(3)     خطورة التفريط الجزئي عن الحقوق اعتمادًا على الغفلة، مما يؤدي إلى ضياع الذات شيئًا فشيئًا حتى الإبادة.
وفي السياق ذاته جاء نص (وغدًا تحاصرك الذئاب ص13). قد بناه في قالب "اليوميات" والنص كاشفٌ دال على واقع متهرِّئٍ، وعلى تصاعد وتيرة الصراع، ويقرر من جديد دور السيد (المولى؛ ولي الأمر) في خداع القطيع وتفويت الفرصة، والنجاة بنفسه ساعة الأزمة فارًّا بنفسه، حين يختفي من الحوار باليومية المشهد الأخير.. يقول (بريك) متكئًا على الحوار ومستثمرًا تقانات الفراغ الطباعي:
(1)
- الذئب يا مولاي يرقبُ صيدَهُ
من خلف أسوار القطيعْ
//
-    دَعْ عنك ذَا.. أتخاف ذئبًا واحدًا
        قد هدَّه مرضٌ وجوع؟!

(2)
- ذئبان يا مولاي خلف حظيرتي!!
- لا تبتئِسْ..
       ذئبانِ يرتجفان من برد الصقيعْ
(3)
- هذا قطيعٌ من ذئابٍ ضارياتٍ سيدي
- نَمْ مطمئنًا..
  إنني حامي الضعيفِ وملجأُ الطفل الرضيعْ
(4)
- أكلت ذئابُ الليلِ كفّي.. سيدي!!
- سأمدُّ كفّي بالسلام إليهمُ  
       كي ينشرَ اللهُ الأمانَ على الربوعْ
(5)
- يا سيدي
بَتَرُوا يدي
-    ........
-    نشبوا مخالبَهم بِقَلْبِي.. سيدي
-    ........
-    يا سيدي!!
-    ........
-    يا سيدي!!
-    ........
-    يا أيها الكلبُ الصَّمُوتْ
      إني أموتْ
      وغدًا تحاصرك الذئابُ
      وليس ينفعُك الصُّراخُ
      وليس ينفعُك السكوتْ
   لا يفطن القطيع إلى الفاجعة إلا متأخِرًّا جدًّا، ومن الجميل بإيقاع النص تحوله بإيقاع نهايات المقطع الأخير عن الروي العيني، مُؤْذِنًا بالنهاية إلى روي التاء.
  وبالديوان أيضًا من النصوص المسرحية جاء نصَّا (أود أن أعيش في سلام 23، تراب وكفن 90) وفيه يحكي عن مأساة المهاجرين الأفارقة إلى الشمال بعد أن ضاقت بهم الأوطان.
   2/6 ويغلب على صورة (بريك) أن تكون استعارية، ويكثر أن تتابع صوره الجزئية لتشكل صورة كلية. يقول في (ذئاب الشوق 61) :
الشوق ذئابٌ تنهشني
والقلبُ ذبيحْ
وذئابُ الليلِ بلا عَدَدٍ
تتعاوى في صحراء الروحْ
   ومنه قوله في (حب المجاذيب 42) :
الليل خاطَ على قلبي عباءتَهُ
                   وذي الكواكبُ تبكي في محاريبي
وحدي أصارعُ ذئبَ الشوقِ في ألمٍ
                    ناءٍ بهَمِّي وهذا الشوق يُغرِي بي
    ومن صوره الاستعارية المتتابعة القاصدة إلى تشكيل لوحة جمالية للألم والمعاناة، قوله في قصيدة (صمت الجبال ص103) :
الجائعون كلامهم يَلِدُ اللهبْ
لكنهم لا يملكون سوى الكلامْ
يا أيها الوطن الذي قد ضاع في لغو الكلامْ
أبصِرْ دموع المتعبينْ
العابرين على الأرقْ
المشرِفين على الغرقْ
فى بحر هاتيك الظنونْ
يا أيها الوطن الذي قد غاله لَغْوُ الكلامْ
إن الصحاريَ صمتُها يلدُ الجبالْ
وهنا الرمالُ كئيبةٌ
تلدُ الرمالْ
    وتكاد الصورة الاستعارية وحدها تملك على نص (الصرخة البكماء 19) ناصيته آخذة بحجزه من العتبة الأولى حتى المقطع. وفيه يقول:
الصرخة البكماء، تِنٍّينٌ تمدَّد في وريدي
تلد الجحيمَ بأضلعي
في هَدْأَةِ الليل الشريدِ
فَلْتشربي همِّي المسافرَ في دمِي
.. من أنَّةِ القلبِ استزيدي
أعلِي جدارَكِ
دون قلبي
أغلقي كل الحدودِ

2/7 إن الأكاديمي المبدع (محروس بريك) بدا في ديوانه (قبل الشتات) مالكًا ناصية إيقاعه، وبدا أصيلاً حريصًا على تناغم نهايات أسطره بشعر التفعيلة، يبدع مع تنوع القوافي، ومع وحدتها أيضًا، يسهم كذلك تكرير التركيب، خاصة التركيب الإضافي المنتهي بلينٍ كأنه الروي أو الخروج، من ذلك قوله في (لا تعجلي 72) :
إني نداء فؤادها
إني صدى أصدائها
 إلى أن يقول:
أنت الهوى .. قلبي
ونبع مشاعري
وكلام أشعاري
ونبض قصيدتي
ولحِضْنك اشتقتُ
فلترحمي خفق الفؤاد
فإنني
من كثرة الشكوى
تصدَّعْتُ
    وربما أسهم الجناس في تنغيم الأشطر كما في مطلع (الفراشات والقناديل ص81) إذ يقول:
أنا إن غضَّنَ الزمانُ إِهَابي
ففؤادي يظل غَضًّا جميلا

   (بريك) ممتع حالم، يؤكد غلبة أصالته على حداثيته فيما يتصل بموسيقى شعره ففي شعر التفعيلة يبدو الروي/ القافية ملتزَمًا بدقة، بحيث يمكن إطلاق صوت الروي على النص، فنقول على (ثوب الشقاء 51) همزية (بريك) إذ يلتزم الهمزة المقيَّدة المردفة بالألف في نهايات جملِهِ الشعرية، على اختلاف مدى سعة الأسطر لتفعيلة الرمل، هو فحسب، يتحرر من عدد تفعيلات السطر، لكنه يلتزم الروي، ربما ناعيًا على أولئك المتحررين من كل إيقاع، فأصحاب المواهب لا يُعْجِزُهم الرويُّ .. يقول: منوعاً في مدى التفعيلة بالأسطر ما بين الأربع، وما دون الاثنتين:
فيك شيء ليس في كل النساءْ
فيك نور سرمديٌّ
يستحي منه الضياءْ
فيك سرُّ عبقريُّ
فيه من روح السماءْ
أنت لحن وجمال ودلالٌ
أنت شوق وصفاءْ
يا ابنةَ النورِ رويدًا
آهِ يا ستَّ النساءْ
كيف يقوي يا فتاتي
ذلك القلبُ المُعَنَّى
أن يعيش العمرَ
في ثوب الشقاءْ
    أما في نص (نعيش في خرافة 136) بعتبة الديوان الأخيرة، فيلتزم عدا سطرًا يتيمًا ما يشبه لزوم ما لا يلزم، حين ينهي سبعة أسطر من ثمانية بالمقطع (ــــــــرافَهْ) يلتزم الراء والألف والفاء والهاء، والنص يبدو بسيطًا من لغته، لكنه عميق الدلالة ساخر.. تبدو بعض نهاياته متجانسة (الظَّرَافة، الطَّرَافة)، (خُرافَه، خِرافَه) كما يتصاعد مدى تفعيلة (مستفعلن) من واحدة بالسطر في المطلع إلى أربع بالمقطع، وبالحشو اثنتان أو ثلاث، مع الانتهاء إلى تفعيلة فعولن في كل مرة.. يقول المبدع (بريك) :
كلامُنا خُرَافَهْ
وصمتُنا خُرافَهْ
هُتافُنا في غاية الظَّرافَةْ
سكوتنا في غاية الطَّرافَةْ
قد حارَتِ العلومُ في شِفائِنا
.. ويَئِسَتْ طلاسِمُ العِرَافَهْ
فنحن في بلادنا نعيشُ في خُرافَهْ
فهل على الذئبِ ملامةٌ إذا ما عَدَّنا خِرافَهْ ؟!!

أقول: لا ملامة ! شكرًا للمبدع الدكتور (محروس بريك) على إبداعه الأصيل الرِّساليِّ .. ودام عطاؤه!

تعليق عبر الفيس بوك