عندما يتدحرج الإنجاز..!

 

 

محمد رضا اللواتي

في اليوم التالي من خروج الفريق الالماني لكرة القدم من كأس العالم الحالي المقام في روسيا، استعادت صحيفة "بيلد" الألمانية عنوانها الذي خرجت به صبيحة اليوم الذي تلا هزيمة المنتخب البرازيلي التاريخية والمُذلة على يدي الفريق الألماني بسبعة أهداف مقابل واحد، وذلك العنوان كان : "بدون كلام"، استعادته مجددا صبيحة اليوم الذي تلى الخروج المُذل لحامل اللقب وبطل العالم على يد المنتخب الكوري الآسيوي، لتكون أول خسارة لفريق أوروبي على يد فريق آسيوي، وبذلك الحجم الذي كان عليه الفريق الألماني، وبذلك التوقيت المهم أيضا.

الصحيفة جلبت عناوينَ أخرى مهينة من قبيل: "غادرنا ليس لسوء الحظ بل مع الحظ تماما"، وكانت قد رفضت أن تقوم بتقييم الأداء لأنها لم تجد -بحسب قولها- علامات يمكن أن تصف ذلك الوضع الذي أسمته "بالفوضى".

ولكن ما يهمنا هُنا هو عبارتان لخَّصتا كل المشهد بتفاصيله الدقيقة، الأولى التي خرجت به صحيفة "سبورت 1" بالبنط العريض؛ إذ قالت: "حان وقت التغيير"! والأخرى "لبليد" قالت: "كل شيء يجب أن يخضع للاختبار بعد هذا الإخفاق". لقد لخصت العبارتان أعلاه كل أسباب فشل الفريق العملاق وبكل تفاصيله، يمكن صياغتها بعبارة مختلفة؛ وهي: "رفض التغيير" و"غياب نظام التقييم ومراقبة الأداء".

وفي الواقع، غرض هذا المقال الرئيس ليس هو هذه الحادثة الكروية، وإنما تحليل ذلك السقوط المدوي، والتي أسبابه إن وقفت وراء أي إنجاز، لأطاحت به، سواء أكان على مستوى الفرد أم المجتمع، وعلى مستوى المؤسسات أو الدول.

ولنعد إلى تحليل الحادثة الكروية تلك مجددا وفقا للعبارتين اللتين نرى أنهما أوجزتا الأزمة برمتها. لقد رفض مدرب الفريق الألماني "التغيير"، وهذا هو السبب الأول، وفضل "الأسماء الرنانة" على "الدماء الشابة" و"الكفاءات الصاعدة"، علما بأن تلك الأسماء ما أضحت رنانة لمحض صُدفة، وإنما عن جدارة واستحقاق، فلقد حقتت إنجازات كبيرة، فنالت كل ذلك الاحترام والتقدير، ولكن هل استطاع ذلك الانجاز أن يمد يد العون لأصحابه؟ كلا لم يفعل! لسبب غير غائب عنا وهو: أن ذلك الإنجاز "مضى وقته"، وبقي أصحابه في "ساعة أخرى" غير ساعته.

لقد كان عليه أن يتعاطى مع ما يفرضه الوقت الجديد من التحديات، وما يتطلبه من مواكبة المعطيات الجديدة وليست التي ولت، ولكل وقت له شخصياته، لا أن لكل وقت ذات الشخصيات! لكن مدرب الفريق الألماني، والذي كان قد استوعب ذلك تماما، فأتى بالدماء الشابة في كأس القارات قبيل كأس العالم، وحقق المرتبة الأولى بهم، فضل "الإبقاء على الأثري" والتخلي عن الكفاءات الصاعدة؛ إذ استبدلها بالتي أنجزت في السابق وولى عهدها، وإذا بفريقه يقدم ذلك الأداء الذي عبرت عنه بعض العناوين الصحفية بقولها: "يا لها من كُرة خائفة، إفلاس محرج"! - "بيلد" كذلك.  

أمَّا السبب الآخر، فقد تمثل بإهمال الجهات التي تستطيع فرض التساؤل عن أسباب العجز، مهمتها تلك، فغاب تماما نظام تقييم الأداء، رغم أن كل المؤشرات التي برزت من خلال المباريات التجريبية للفريق كالتعادل بلا طعم أمام الإنجليز، وخسارة أمام النمساويين، وفوز بطعم الخسارة وبشق الأنفس مع فريق آسيوي، أقول كل تلك المؤشرات كانت تدل دلالة واضحة على أن الفريق يعاني عجزا لفقدانه العناصر الشابة المبدعة، ولكن حينها، لا "بيلد" ولا "سبورت 1" نادتا بضرورة تقييم الأداء بفرض التساؤل عما يجري ومحاسبة المسؤول. لم تفعلا ذلك بتاتا!

هكذا يكون الإعلام سلبيا للغاية عندما لا يتساءل عن أسباب ضياع الإنجازات وعدم استمرارها، مُفضِّلا الانشغال عن أداء دوره التنموي بأمور أخرى.

الانسان كائن "يأنس" ما يألفه، فيقاوم التغيير، ولكن عجلة التنمية لا يمكنها الدوران إن ظلت العقول الشابة عاطلة عن خوض غمار المعمعة؛ لذا تحول "التغيير" إلى "علم" له قواعده وشروطه وأنظمته، يدرسها الطلاب في تحصيلهم الأكاديمي؛ لأن مجاراة المتغيرات العصرية ومواكبة حركتها مما لا مناص عنه أبدا.

لقد كان الفريق الكوري مفعما بالطاقات الشابيبة، في حين أن الألمان كانوا قد استهلكت طاقتهم في الزمن الذي حققوا فيها إنجازاتهم. المواجهة كانت مستعرة بين فريق قادر على الجري بكل قوة، متعطش للإنجاز وإثبات الذات، وفريق ولى وقت جريه، شبع من جلب العناوين البارزة، والمضمار لم يكن مضمارَ من أنجز أكثر "سابقا"، وإنما المضمار كان مضمار من يستطيع "الآن" أن ينجز أكثر.

يجب على المواهب الفذة العقول الشابة أن تجد طريقها لصناعة الإنجاز، بإشراك الأكفأ منها -على أقل التقديرات- في بعض جوانب التنمية؛ لأنها الأجدر بمواكبة العصر من تلك التي قدمت في مرحلتها من عطاء جزيل، وحان لها الآن أن تسلم الزمام للقيادات الطليعية. من الضروري أن تبقى عجلة التنمية بعيدة عن الإصابة بالشيخوخة. التعليم والتخطيط ومشاريع الإسكان والارتقاء بالسياحة في بلد المقومات السياحية الأولى، ودورة دماء الجسد الاقتصادي، كل هذه قد تهرم وتشيخ ما لم تسعفها الدماء الشابة وعقول العصر، فهذه فحسب هي رهان الوقت.

ولن تنجرف التنمية بعيدة عن أهدافها إن ظل الإعلام يلاحقها بفرضه لسؤال "لماذا؟" و"كيف؟" و "متى؟"، متحديا المشاغل الهامشية أن تجثم على صدره وتشوش تفكيره وتغربل توجهاته.

ومع أحلى الأوقات في المباريات المتبقية.

mohammed@alroya.net