أموال عامة تُبدَّد بدم بارد

د. سيف المعمري

هل يُعقل ما يجري داخل مُؤسساتنا الحكومية من استهتار بتبديد الأموال العامة؟ في الواقع إنَّ الذي لا يعقل هو طرح هذا السؤال رغم أن الوقت الذي نعيشه هو وقت الحصول على المال بأي شكل كان؛ لأن هناك نزعة سلبية تشكلت نحو المال العام داخل المؤسسات منذ زمن طويل، كان سببها غياب المحاسبة الصارمة والدقيقة للمؤسسات والمسؤولين عليها؛ فكان الجميع يصرف ويبدد المال العام في جوانب لها قيمة وعائد، أو لم يكن لها ذلك، مادام أن الموازنة متاحة والأوراق مُعدة بشكل جيد، فلِمَا التدقيق في النواحي التي يُصرف فيها المال العام؟! ورغم تشعب الموضوع وتعقده، أود أن أسلط الضوء فقط على الأموال التي تخسرها المؤسسات الحكومية في المحاكم نتيجة القرارات غير المدروسة التي تتَّخذها سواء ضد موظفيها، أو ضد المواطنين ممن يقومون بخدمتها وفق القوانين والقواعد والتشريعات، كم مقدار هذه الأموال التي تُستقطع كتعويضات سنوية من موازنة المؤسسات؟ وهل هي شيء طبيعي لا يمكن التوقف عنده والمحاسبة عليه؟ أم هي شيء ناتج عن سوء إدارة للأموال المتاحة من قبل المسؤولين ودوائرهم القانونية يجب أن يتم المحاسبة عليها، بل والإقالة بموجبها؛ من أجل إظهار جدية أن للمال العام قدسية وحرمة، لا يمكن التفريط فيها بهذا الشكل، ولا يمكن التهاون بشأنها؟ إلا إذا كان الأمر لا يعني أحدا!! وكيف لا يعني أحدًا، والريال اليوم في جيب ذوي الدخول المحدود يُمثل قيمة كبرى من وجهة نظر المسؤولين؟!.. إنها التناقضات التي يجب أن نتوقف عندها، والخطابات المتضاربة التي يجب أن نفكك مضامينها، وإلا فإن التهاون بشأن المال العام سيظل سياسة مشروعة لا أحد يسأل عنها وجزءا من نهج قائم، يبدد أموالًا يمكن أن تُصرف في نواحٍ أخرى طالها تقشف حاد.

إنَّ ما تداول مؤخرا عن تغريم جهة حكومية مبلغا ماليا كبيرا، نتيجة خطأ في تطبيق قواعد القانون، يعد خبرًا وحدثًا يستحق التوقف، والسؤال: هل ستتحمل الجهة المسؤولة تسديد هذا المبلغ، أم أنه سوف يُسدد من موازنة البلدية أي من المال العام؟ لست متأكدا من أنه سوف يسدد على حساب المسؤول، وهذه مجرد حالة واحدة من عشرات القضايا التي رفعتها الدوائر القانونية بالمؤسسات الحكومية وخسرتها؛ لأنها لم تكن عادلة، وكانوا يعرفون أنهم سوف يخسرونها، وأن الخسارة يترتب عليها كلفة مالية كبيرة، ولكن كما قال لي أحدهم ذات يوم أن المسؤول حين يعْرِضون عليه حقائق الأمور، ويُطالبونه باتخاذ قرارات تصحيحية للقرارات الخاطئة التي اتخذها مُسبقا لتجنب خسارة القضية، يرفض، ويُصر على المضي فيها حتى وإنْ كانت خاسرة، لماذا هذا الإصرار وهذا التعنت من قبل المسؤول رغم علمه بذلك؟ الإجابة بسيطة جدا وهي أنه لن يدفع شيئا من جيبه كتعويضات مُستحقة على وزارته، سوف تُدفع من موازنة الوزارة؛ لذا فهذا جانب مظلم من جوانب تبديد المال العام بقصد وبنية مسبقة وبدم بارد وبدون تأنيب ضمير، ونأمل من محكمة القضاء الإداري أو من جهاز الرقابة الإدارية والمالية أن ينشروا تقريرا حول القضايا الخاسرة الناتجة عن أخطاء عدم الدقة القانونية، ويذكروا معها بشفافية الفاتورة المستحقة، من أجل أن تكون الصورة كاملة، ولا يهوِّن أحد منها، ولا يحولها إلى خبر وحدث عابر كما يحصل، ونأمل من إعلامنا وصحافتنا أن تتناول هذا الملف بالتحقيق والاهتمام والتحليل، لا أن تركز على قضايا هامشية.

علينا في مثل هذه الأمور ألا نركز على عدالة القضاء التي لا جدال حولها، وهي مبعث فخر، ونترك الأمر الرئيسي وهو إهدار المال العام، ومحاسبة أيًّا من كان المتسبب فيه، حتى لا يصبح المال العام هدفا للاستهتار، ويقف المسؤول بعيدا عن المساءلة، في هذه الحالة وفي حالات أخرى، وهو يعني أن الجانب الشخصي يغلب على مأسسة الدولة، وأن الرقابة لا تغطي كل المخاطر التي يتعرض لها المال العام، ولننظر إلى الدول التي لا عِصمة فيها لمسؤول، كيف يصرون على الحصول على المال العام المستحق حتى وإن كان من رئيس الوزراء نفسه كما حدث مع رئيس الوزراء الكندي جاستين ترودو، الذي غُرِّم 100 دولار بسبب عدم تصريحه بتلقي نظارة شمسية كهدية خلال المدة القانونية وهي شهر، وأن الهيئة الرقابية التي فرضت ذلك هي تابعة للبرلمان الكندي، ومن قبله تم تغريم رئيس وزراء أستراليا 250 دولارا بسبب عدم ارتدائه سُترة نجاة أثناء قيادته لزورقه في ميناء سيدني. إذن؛ كيف يمكن أن نحفظ المال العام، ونقنع بقية المواطنين بقدسيته ونحن نرى المؤسسات تنتهك تلك القدسية، وكيف نهدر حقوق الموظفين في التدريب والترقيات وفي النهاية تهدر الأموال في قضايا خاسرة نتيجة إهمال أو عدم دقة أو دراية أو تعنت من قبل المسؤولين؟!!!!!