قراءات في الخطاب السامي (10)

 

 

سلطان الخروصي

 

التوازن الدولي

يُشكِّل التوازن السياسي المشفوع بحنكة القيادة، والإرث والحضارة والتاريخ، أحد أبرز مظاهر القوة الصامتة في تحقيق التوازن المحيط وطنيا وإقليما وعالميا، ولا يتحقق ذلك الوجود إلا بإرادة مؤمنة بالسلام والتوافق بين المصالح المتبادلة واحترام الأطراف بأي قوة قومية أو سياسية أو اقتصادية أو عرقية كانت، وهنا يبرز المعدن الحقيقي في الكثير من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين القيادة التي تحركها عواطف الانفعال وعواصف النكاية والعزة بالإثم، وبين القيادة المزدانة بالكاريزما الهادئة التي تصل لمقصدها برويّة وتنسج أهدافها ومبتغاها بخيوط دقيقة مذهّبة بأن الدنيا لا تُؤخذ غلابا، مع الأخذ بعين الاعتبار أن كل ذلك لابد أن يكون مبنيا على توافق وتوازن بين الخطاب والفعل، فحينما يكون الخطاب السياسي مترهّلا في مفرداته ومعانيه وممارساته الفعلية، عكس ذلك فإن التوازن بينهما يكون على مسار غير سويِّ، وكذا الأمر حينما تجد الخطاب يجعلك وكأنك أفلاطون زمانك والممارسة كأنك حصان طروادة، فأينما تجانس الأمرين فإنَّ القرارَ السياسي يكون له قدرته العظيمة بين أروقة صنّاع القرار العالمي.

 ومن يتتبع الخطابات السامية لجلالة السلطان -أيَّده الله- منذ مطلع السبعينيَّات وحتى الساعة يجدها راسخة رسوخ الجبال في التعاطي مع مجريات الأحداث والمتغيرات والتجاذبات فهي تسير في خطى ثابتة بين ما يقدمه الخطاب السياسي وبين الممارسات والتصرفات الرسمية؛ مما خلق مبررا قويا لأن تكون عُمان محل إجلال واحترام دولي في تسهيل سيناريوهات الكثير من القرارات الدولية أو حتى صناعتها، والمتتبع لخيوط هذه السياسة يجدها متجذّرة في الخاطبات السامية والتي وضعت الخطوط العريضة لسياسة البلاد داخليا وخارجيا؛ فهي لا ترضى التدخل في الشأن الداخلي مهما كان ذلك وإن حدث فالتعامل مع الموقف يكون بعقلانية ومنهجية تحفظ حق جميع الأطراف، ففي خطابه بالعيد الوطني الثاني 1972م يقول: "إن سياستنا الخارجية تقوم على انتهاج سياسة حسن الجوار مع جيراننا وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لأية دولة، وتدعيم علاقاتنا مع الدول العربية وإقامة علاقات ودية مع دول العالم، والوقوف بجانب القضايا العربية في المجالات الدولية، والوقوف بجانب القضايا الإفريقية وتأييد نضالها من أجل الحرية والاستقلال"، وترجمة لهذا الخطاب نجد أن الأحداث المحيطة والتي تمثلت في تدخل سافر وغير مبرر لإحدى الدول العربية في الشأن العماني ومحاولة قلب النظام الحاكم جُوبهت بحكمة ورويّة واتزان، ولم نسمع صافرات الإنذار السياسي ولا الفرقعات الإعلامية، ولم نشاهد أو نلمس تغيرًا فعليًّا في العلاقات السيادية والاقتصادية والاجتماعية؛ وهو ما دَفَع الأطراف المتورِّطة إلى تقديم الاعتذار والاعتراف بالفعل المشين الذي أقدمت عليه، وفي الأزمة الأمريكية-الإيرانية وفي لحظات كانت تتوجس فيها شعوب العالم خشية سحب فتيل الانفجار والاصطدام، جاء الموقف العماني لاحتضان هذا التشظّي في المواقف والتشنّج في الفعل وردود الفعل ليتوّج باتفاق مسقط، الذي أذاب الجليد بين الطرفين وتستقر المنطقة، وتتجنب شبح الموت والدمار بعد تجارب مؤلمة إبان الحربيْن العالميتيْن الأولى والثانية، كما يتَّضح ترجمة الخطاب في التعامل مع الأزمة اليمنية التي ترى القيادة السامية أنها لن تقدم لليمن شيئا أكثر من تدميره وغرس بذور الاحتقان والاقتتال القبلي والطائفي وإدخاله في غياهب ظلمات الحرب الأهلية، علاوة على زيادة الأعباء الاقتصادية والمعيشية على كاهل البلد المتهالك أصلا، ورَفع مُعدلات البطالة والفقر والجريمة وتوقف مسيرة التنمية، كما أنه يجنب الدول المحيطة من الوقوع في مستنقعات الانتقام والتربّص وفقدان الثقة.

وفي الثوابت العربية كانت القيادة العليا قد أعلنت عن عروبية فلسطين وحق اللاجئين بالعودة إلى دياريهم، ورفع الظلم والغطرسة عنهم، وتقرير مصيرهم أمام النضال الذي تجاوز ستة عقود ونيف، وظل هذا المبدأ قائما حتى اللحظة كأحد الثوابت السياسية القويمة التي لا حياد عنها، كما أن الموقف العماني تجاه الأزمات السياسية العربية البينية كان متفرّدا ومتميّزا؛ ففي المقاطعة العربية لمصر إبان عهد السادات وتوقيعه على اتفاقية كامب ديفيد في سبتمبر 1978 مع الكيان الصهيوني، والذي بموجبه حفظ السادات لمصر حقها في أراضيها -بغض النظر عن التفسيرات الأخرى- ظلت عُمان بعلاقاتها الدافئة مع جمهورية مصر بحكم الدم العربي وحق الآخرين في تحقيق مصير أوطانهم وشعوبهم، وفي المشهد الإيراني ظلت عُمان همزة وصل بين الشد والجذب التي يحصل بين الفينة والأخرى، وتوجس دول الخليج العربي منها لأطماعها السياسية والتوسعية والمذهبية، على الرغم من اتهام أشقائها لها بالتواطؤ مع إيران، لكنها تثبت تاريخيًّا وحضاريًّا وإنسانيًّا أن علاقتها كانت ولا تزال متجذّرة منذ القرون القديمة.

إذن؛ عُمان كانت ولا تزال همزة وصل ومحيطًا فسيحًا لتحقيق التوازن الدولي واستقرار المنطقة مهما حاول البعض استفزازها أو إخراجها من جلباب الوقار والعظمة والكبرياء فلن يستطيع، فمن خُلق عظيما وترعرع بالعظمة سيظل خالدا بذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

دُمتم بود...،

Sultan.alkharusi@gmail.com