(الرؤية والأداة في ديوانه "قبل الشتات"):

تجليات الذات والوطن فى شعر محروس بُـرَيِّك (1- 2)

...
...
...

د. مصطفى محمد أبو طاحون


أستاذ الأدب والنقد المساعد - كلية الآداب – جامعة المنوفية - مصر
يقول الأكاديمي الشاعر "محروس بُرَيِّك" في ديوانه "قبل الشتات" في نصه (حب المجاذيب42):
والشعر أنشودتي، والشعر تعذيبي
    الشعر إذن هناؤه وشقاؤه، أفراحه وأتراحه.. ولئن بدا بيتُه مُشْكِلًا، حين جعل الشعرَ مثيرًا للمتناقضَين، ففي العكوف على قراءة الديوان ما يمكن أن يفضَّ مغاليق البيت. يتمحور (قبل الشتات) حول ثلاث قضايا مركزية هي الذات المُحِبَّةُ (الحب)، والشعرُ.. وهو موهبة الشاعر الكبرى، والوطنُ والأمَّة. والحب مع الوطن، هما مثيرا الشعر الكبيران بالديوان.

والغرام عند بريك هو ما يصوغ الشعر لحنًا شجيًّا، يقول ص80 :
الشعر لحنٌ شجيٌّ
قد صاغه المُغْرَمُون
    ولئن بدا الحب والشعر مثيرَيْ سعادة وهناء عند كثيرين، فإنهما عند "بريِّك" في (أنت والشعر38) يُنغِّصان عليه أحلامَه وماضيه، فيؤثِرُ حيالَهما الصمت، مفضلاً على اصطحابهما العزلةَ والوحدة.. طلبًا للسلام، يقول:
أنتِ والشعر تفسدانِ منامي
توقظان الشرودَ في أحلامي
تغرسـان الأنينَ في ذكرياتي
تمضغان حُشاشتي في الظلامِ
صِرْتُ أمضِي على الجراح وحيدًا
كحَمـامٍ يــطيرُ نحــو حِـمَـامِ
قد رضِيتُ بأن ألوذَ بصمتي
فاتْـرُكانِي لِوَحْدَتِي وسلامي
    على أنه في (زَمِّلِي قلبَك وهمًا21) يؤثر الشعر والنشيد على نشيج الحب وهجر الحبيب، فهو يعشق فنَّه، وشعرُه كافٍ لأن يبني منه قلاعَ العشق.. يقول:
لا تظنِّي
أنَّنِي.. إن غِبتِ عنِّي
لن أغنِّى
فأنا أعشق فنِّي
أغزل الليل شموسًا
وهمومي بعضُ لحني
وأنا كالطير
أشدو بنشيدي
عابرًا غصنًا لغصنِ
كَلِمَاتي تُوقِدُ الشمسَ لهيبًا
وقلاعَ العشق تبني
فَتَجَنَّيْ .. وتمنَّي
ليس يشجيني التجنِّي .. والتمني
    والحق أن الحب والشعر يتجاوران وربما يتنافسان في (قبل الشتات) كلٌّ يحاول الغلبة، ولكليهما حضورٌ بارز كمًّا وكيفًا من الوجهتين الشكلية والموضوعية، ولكلٍّ قصائدُ خاصة، موضوعها من العتبة (الحب أو الشعر).. وفضلاً عن أن الفصل بينهما في ديوانٍ مستحيلٌ من حيث إن الشعر هو القالبُ الضامُّ، فإن نظرة "بريك" للشعر تتميز بالثبات والتقدير، أو قُلْ بثبات المكانة، فالشعر عند (بريك) دومًا (باستثناء كونه تعذيبه في ص 42) ، ولا أراه إلا شعر الحب قبل غيره من موضوعات شعر الديوان، هو الاستشفاء بالكلام.. هو فيض النور.. هو السعادة.. هو التجديد والتغيير.. يقول في (الشعر(1)) ص 77:
الشعرُ يجلو هازئًا
زيفَ المساحيقِ على وجه الصَّنَمْ
الشعر ليس ترفًا
الشعر فيض النور في عصر السأمْ
هو الشُّرودُ في عيونِ طِفلةٍ تائهةٍ
تحضُنُ جِذْعَ الخَوفِ
 في دربِ الألمْ
 هو الشفاءُ بالكلامِ
والهروب من بَرَاثِنِ العَياءْ
هو التِمَاعُ دمعتين في الجفونِ
لحظةَ العروج للسماءْ
هو انتزاع بسمةٍ بريئة
في ذلك الكُوَيْكِبِ
الذى غدت غِيلَانُهُ تُعْوِلُ في الفضاءْ
هو اختراع لغة جديدة
في عالم تقوده جحافل الغباء
  والشعر على هذا النحو لدى (بريك) ليس غاية في ذاته، هو شاعرٌ رِسالِيٌّ ينحاز إلى قضية؛ شِقَّاها: الذاتُ محبةً ومنتميةً، والوطنُ الكبير والأكبر.
(1) تجلياتُ الذات المُحِبَّةِ في "قبل الشتات":
    يبدو الدكتور (بريك) رومانسيَّ الطابع والأداة بأكثر غزلياته في "قبل الشتات".. يرى الحبيبة جميلة متمنِّعَةً.. ويرى نفسه أسيرًا مضطربًا.. حزينًا.. محرومًا، لا نجاة له إلا بوصالها.. يقول في (ليل العاشقين ص10) ولا ينبِّئك مثل خبير:
أَنُوءُ بِهَمِّ العاشقين ووَجْدِهم
وما بيَ من شوقٍ إلى الهَمِّ راغبِ
//
أيا حُلْوَةَ العينين أصْمَتْ سِهَامُكم
فيا ويحَ سهم الحب .. ليس بكاذبِ
//
فلولا الهوى ما كنت للأسْر أرتضِي
ولولا الجوى ما كان ذا القيدُ صاحبي
//
فَكُونِي سلامًا في الضلوع ورحمةً
فَوَحْدكِ مِجْدافي بشتَّى قواربي

هو يؤثر قربها في (لا تعجلي ص71) ويرى بُعدها موتًا.. يقول:
فبقربها يحيا الفؤاد
وبُعدُها موتُ
     ثم يخاطبها دون وسيط بنهاية النص فيقول:
ظلِّي بِقُرْبِي
داخلي
وبنور عينيكِ اسكُبِي
فِيَّ الحياة
فإنني
إن غابتا
تُهتُ
إن غابتا
مِتُّ
إن غابتا.. متُّ
    الحبيبة تملك على الحبيب أقطار نفسه، يراها في كل شيء.. وفي كل آنٍ؛ فهي له الكونُ كلُّه.. والكون كلُّه هي؛ يقول في (القلب لا ينام ص52، 53) :
أنَّى التفتُّ يا حبيبتي
أراكِ في الزحامْ
أراك في أغنية المساءْ
أراك في السكوت والكلامْ
أراك تبسمين طفلةً
صَبِيَّةً ممشوقةَ القوامْ
أراك في كل الدروبِ
في الشوارع العتيقةْ
في بسمة الصباحِ
في الغروبْ
يا عذبة الكلامْ
أراكِ يا عصفورتي
على جدار القلب تَنْقُرِينْ
وتبسمينْ
يا وردة المساءْ
يا بسمة الربيع
يا نبع الابتسامْ
   والروح المهيمنة بالأبيات وتقاناتها التعبيرية التكريرية مع جمالية اللغة وصفائها تستدعي إلى الذهن رائعةَ الشابي التي يقول فيها:
عَذْبَةٌ أنتِ كالطفولة كالأحلام كاللحن كالصباح الجديد
كالسماء الضحوك كالليلة القمراء كالوَرْدِ كابتسام الوليد
وأقرب إلى ذلك قول (بريك) في (حتى تضيء الشموع ص54) يخاطب الحبيبة:
لَأَنْتِ الشــتاءُ وأنت الربـيعْ
وأنت الحنين وأنت الدمُوعْ
وأنت الهدى يا ابتـسامة عمري
وأنت بليلِ الحَيَارى شُمــوعْ
وأنت الفؤاد الذي يحتــويني
وأنت الهوى والجوى في الضلوعْ

   وتعد "متقاربته" الرائعة ذات النمط الصعب في قافيتها العصية صدورًا وأعجازًا (أنت وهنَّ: أيْقُونَتَا حضور وغياب ص85) التي أهداها إلى رفيقة دربه الأديبة "نُهَى الطرانيسي"، من عيون غزلياته، ويتكئ فيها على تقانَتَيْ التشاكل تكريرًا، والتباين مقابلةً، مُجَسِّدًا صادقَ حبِّه، ورقيق مشاعره.. فهي لا هُنَّ من تملأ قلبه وعينه، ولها وحدها يخلص وُدّه.. يقول بالمفتتح:
ويُطْلِقْنَ لِلترَّهَـــاتِ الأعِنَّهْ
وأنت الحقيقة لو تعلمينْ
//
وهن ادِّعَـاءٌ فَيَا بُؤْسَهُنَّه
وأنت بقلبيَ عينُ اليقينْ
//
وهنَّ هبَاَءٌ بوادي الدُّجُنَّهْ
وأنت الضياء بوادي الحَنِينْ
//
ويرعد دون حيَا أُفْقُهُــنَّه
وغيْثُكِ يهْمِي فَيَرْوِي الأنِينْ
ويُطْلِقْنَ لِلترَّهَـــاتِ الأعِنَّهْ

  ويقول في المختتم:   
أنا لستُ أصبُو إلى حُبِّهِنَّهْ
وحبُّكِ طوقٌ من الياسمينْ
//
ولستُ أحنُّ إلى صوتِهِنَّهْ
وصوتُكِ لحنٌ شجيٌّ حزينْ
//
قضى اللهُ ألا أميل لَهُنَّهْ
وفي حبِّنَا، قال : كافٌ ونونْ

    والنص بتميزه الأسلوبي الإيقاعي رامز إلى تقرير مَن يحبُّها وإلى مَنْ حبُّهنَّ مجردَ مثيرٍ إبداعي. وبالديوان من جميل شعر الغزل أيضًا نصُّه (عيناك ص87).
(2) الذات المنتمية للأمَّةِ والوطن في "قبل الشتات":
    يبدو حضور الأمَّة العربية والوطنِ المصري الكبير بارزًا بديوان الدكتور (محروس بريك) الموسوم بـ "قبل الشتات".
    أما مصر فهي الحبُّ الكبير، يحبها الشاعر حبًّا عميقًا صادقًا أصيلاً، ضاربًا في جذور الزمن، على نحو ما نلمس في قوله (أهواك أكثر ص95):
أحبكِ يا مصرُ رغم المآسي
ومن عهد (مِينا) لِعَيْنِك أُبْحِرْ
    هو رغم المآسي.. يحبُّها وسيظل يحبها، جُبِلَ على ذلك، وفُطِرَ عليه، يقرر هذا المعنى مجددًا في نصه السابق (أهواك ص94) إذ يقول بالمختتم:
يا مصرُ يا ابتسامةَ العَذَارَى     
أهواكِ مهما طالتِ الخُطُوبُ
   والشاعر معنِيٌّ أكثر من غيره بالعمل على الوحدة الوطنية وتماسك نسيج الأمة المصرية، لقد عاش مصر بمسلمِيها ومسيحِيِّيها أمَّةً واحدة في الشدة والرخاء، تصدُّ الغزاة، وتسعى لتحقيق الآمال يدًا بيدٍ، دون تمايزٍ أو تفريق، وهذه الوحدة تمثِّل على مر الزمان صمام الأمان الفريد؛ وبه ومن أجله اختلطت دماء المسلم بأخيه المسيحِيِّ دفاعًا عن الوطن.. يقول "بريك" في (دام أمانُكِ جيلاً فَجِيلا ص99) :
وقفنا هنا ذات يومٍ نغَنِّي
لمصرَ نشيدَ السلامِ الجميلا
//
ونغزلُ خيطَ الضياءِ شموسًا
لجيلٍ  غَفَا في الظلام طويلا
//
وأحمدُ عانق طيفَ المسيحِ
لِيَنْداحَ نورُ النهارِ خُيُولا
//
فكفٌّ تغازلُ صبحَ الأماني
وأخرى تردُّ الرَّدَى والمَغُولا
//
فكفٌّ تغازلُ صبحَ الأماني
وأخرى تردُّ الرَّدَى والمَغُولا
//
ترانيمُ عيسى وصوتُ الأذان
تزفُّ الشهيدَ الضَّحُوكَ النحيلا
//
رسمنا على النيلِ حُلمَ الصفاءِ
وقد كان حُلمًا جميلاً نبيلا
    وحينما يطمئن الشاعر إلى أن وطنيته ليست محلَّ خلاف أو شكٍّ، فإن هذي الخطوب وتلك المآسي تفرض عليه تصديقًا لوطنيته أن ينصح للأمَّةِ حتى تنجلي الغمَّةُ، وتنكشف الكربة، ولذا ففي شعر "بريك" الوطني الصادق نقدٌ اجتماعيٌّ، استوجبته رِسالِيَّةُ شعرِهِ وصدقُ ولائه، وواقعُ عصره، وفي هذا الملمح من وطنياته يتجسَّدُ جمالُ الرقَّة، ورقة الجمال.. إن الحياة الكريمة ليست بالمقام الأول مطلب جماهير، وإنما هي واجب الوطن تجاه مُوَاطِنِيه، وحينما يعزُّ الرغيف، ويغلو السُّكَّرُ فإن شيئاً ما يستوجب المراجعة، وربما ضجر المُعْوَزُون.. وتعجب العاقلون، يقول الشاعر في (أهواك أكثر ص95):
صباحُكِ يا مصرُ شهْدٌ وسُكَّر
مساؤك يا مصرُ مِسْكٌ وعَنْبَرْ
//
أَأَحْلُمُ فيكِ بطيفِ الرغيفِ
وأرضُكِ تِبْرٌ ونِيلُكِ كَوْثَرْ؟!
//
وهبتُ دمائي فدى مُقْلَتَيْكِ
وأنت بَخِلْتِ بحَفْنَةِ سُكَّرْ!!
    ثم يؤكد مجددًا – وحتى لا يتنطَّع المتنطِّعون- حبَّه لمصر، وأن الضجر واللوم من سِيمَا المحبِّين، حينما يدلُّ الحبيب.. ويهجر.. يقول:
أحبكِ والنيلُ نبضُ عروقي
وحبك في القلب سَيْفٌ وخِنْجَرْ
//
فلا تنكري أن أقولَ سئمتُ
فكلُّ مُحِبٍّ يلوم ويضجَرْ
//
فيا مصرُ أكرمتِ كلَّ لئيمٍ!!
وما زلتُ يا مصرُ أهواكِ أكثرْ

    ولئن منَّ الله على مشركي مكة بالأمن والشبع في (قريش)، فإن الأمان والكفاية من الضرورات نعمتان، استعظمها الله تعالى، يستوجبان الشكر المُنْعِمِ.. وعلى النقيض، فغيابهما يفكِّكُ الجماعة البشرية، ويثير السخط.... يُهدي الدكتور "بريك" إلى "أمل دنقل" قصيدته (كل شيء بمصر على ما يرام ص105) وفيها يقول بالمختتم:
أناسٌ هنا يسعَلُون
تزمجر فى صدرهم ألفُ آهٍ
وجفَّ بجوف السعال الصهيل
ومات الكلامْ
وألف بغِيٍّ .. وألف تقِيٍّ
وألف دعِيٍّ
يُزيِّنُ للمتَّقِين الحرامْ
أجلْ .. كلُّ شيءٍ بمصرَ على ما يرامْ
سلامٌ على الطيبين بمصرَ  
ينامون جَوْعَى
سلامٌ على الخائفينَ
سلامٌ .. سلامْ
    وتكثر بالديوان قصائد (بريك) الوطنية الصادقة، وبعضها رامز دالٌّ فيه من روح الشاعر ووطنيته.. وفيه كذلك من إنسانيته ورحمته، وفيه وعيٌّ وفكر.. وإنصاف، من ذلك قصيدتاه: (تراب وكفن ص90، الطير فى مصر ص98).
   وتكاد تنحصر أسباب الغُمَّةِ لدى الأمة في غياب الوعي وتدابر الإخوة وتشرذمهم، وربما كان غياب الوعي أخطر هذه الأسباب.. وجميعها أسباب ضعفٍ وهوان، يكشف عن ذلك، خاصة تشاقق العرب وصراعهم في قصيدته (طال السرى ص18) فيناجي الله أن تدرك رحمتُه الأمَّةَ فيقول:
يا رب هَيِّئْ لنا من أمرنا رشَدا
فالموتُ موجٌ بأرض العرب يَصْطَفِقُ
//
لا الشام فيها جِيَادُ الحقِّ ضابحةً
ولا العراق .. ونور الحق ينمحِقُ
//
يا رب ليس سواك الآن يجمعهم
عسى .. وعلَّ.. وليت العُرْبَ تَتَّفِقُ

 أما غياب الوعي؛ فأبرز تمثلاته يكمن في تكرير الأخطاء، وعدم الاعتبار بالتاريخ، هم يتصارعون غافلين عن عدوٍّ مشترك شرسٍ، ينتظر الفرصة لِيَلْتَهِمَ في سهولة ما تبقى منهم في النهاية، يجسد هذه المثلبةَ بجلاء نصُّ (مسخرة ص133) وهو بعتبته دال؛ إذ يقول:
قومي أنا
لا يُلْدَغُونَ مَرَّةً
بل ألف مرَّةْ
حربُ البسوس بينهم
في كل يومٍ مستمرَّةْ
رُسْلُ المَنَايَا بينهم
ضاق بها أُفْقُ المَجَرَّةْ
يستتبع غيابُ الوعي بالأمة ضعفَها وهوانها وشقاءها، وتسرب الضياع إلى كل ممارساتها.. يقول في (نعيش في خرافة ص136):
كَلَامُنا خُرَافَةْ
وصمتنا خرافةْ
//
هتافنا في غياية الظَّرَافَةْ
سكوتنا في غاية الطرافةْ
//
قد حارت العلومُ في شفائنا
ويئِسَتْ طَلَاسِمُ العِرَافَةْ
//
فنحن في بلادنا نعيش في خرافَةْ
فهل على الذئب ملامةٌ إذا ما عدَّنا خِرافَهْ؟!
//
 وهو في ذكاء مستملح، يعرض لكلِّيَّاتٍ كبرى تتصل بهوان الأمَّةِ، عبر حَدَثٍ عارض! تمثَّلَ في أكل لحوم الحمير بإحدى بلدان الأمة.. مما استتبع انسحاب أخلاق الحمير على الآكلين.. المأكولين على الحقيقة.. يقول في (إذا أُكِلَ الحِمَارُ بأرض قومٍ ص118):
إذا أُكِل الحمارُ بأرض قوم
لَعَمْرُكَ طال بينهمُ النهيقُ
//
وتَنَّحَتْ المدائنُ واشمخرَّتْ
وأصبح للغباء بها بريقُ
//
وساد الآكلوهُ بكل وادٍ
وطال الرَّفْسُ واحتدم النعيقُ

والشاعر يقف في النهاية موقفًا إيجابيًّا تجاه أعداء الأمة من المعتدين الظالمين، إذ يترصَّدُهم سعيًا لتحرر أمته، يقول في (طائر الفنيق ص111) :
أنا قَدَرٌ مُرْصَدٌ
مثلُ أفعى
ستُقعِي لكم في الطريقِ
لها ألفُ رأسٍ تفور لَهِيبًا
تفور انتقامَا
فلا تهنئوا بعد قتلي
فلن تستريحوا
(فَطَيْرُ الفِنِيقِ) سينفضُ عنه غبارَ الرماد
يحرّر من قبضةِ الظالمين
عِرَاقًا وشَامَا
(2)
   طبعَتْ تجربة (محروس بريك) الإبداعية كونها تجمع إلى الذاتية اهتمامًا بارزًا بهموم الأمة والجماهير، أو كونها تعنَى بالذات والوطن – طبعت التجربةُ خصائصَ الأسلوب بما يعمل على توافق الشكل والمضمون واتِّسَاقِ الرؤيا والأداة، فجاءت خصائص الأسلوب قاصدة إلى تعزيز الرؤيا، كاشفة عن مبدعٍ معاصر له رؤيته الخاصة وأداته المميزة.
  وقد تمثلت – حسبما تبين لي – أبرز ملامح أسلوب "بريك" بديوانه (قبل الشتات) في:
(1)     أصالة اللغة ورقتها.
(2)     الوضوح الدلالي.
(3)     التكرار.
(4)     المقابلة.
(5)     السردية الرامزة.
(6)     الصورة الرومانسية الحالمة.
(7)     الإيقاع المنسجم.. الهادئ.
    2/1 وقد بدت درعمية المبدع (بريك) واضحة في إبداعه؛ فجمعت لغتُه بين الأصالة والرقة، وتنوعت مصادر ثقافته المشكِّلة لبنائه اللغوي، ما بين عربي فصيح، وغربي يوناني إغريقي، ومصري فرعوني قديم.
   أما الدرعمية فَكَامِنَةٌ في قدرته الشجاعة على توظيفِ دوالَّ أصيلةٍ فيها من روحه واجتهاده وتصرُّفه، وربما بدا أنها غريبة في سياقها الضام، لكنها دومًا دالةٌ مقنِعة، من ذلك قوله في ختام (لا تشرحي السببا ص66):
يا رحمة لمعَذَّبٍ
قَلِقٍ جَوٍ
في الوصل قد رغبا
    فالدال (جَوٍ) بدا كأنه.. منحوت من الجَوَى على غير مثال.. فأدى دلالة اسم الفاعل.. المشتق، وليس ببنائه الصرفي، وتتابع التنوينات مما أسهم في تسارع الإيقاع وحدَّة الدلالة المطروحة، وربما أفزع المتلقي (الخاصَّ والعام) تباعدُ حركتي الصوتين في (جَوٍ) ما بين الفتح والخفض، كل ذلك أسهم في نقل معاناة المحب المعذب الراغب وصلاً.. ما كان! وقريبٌ من هذا استثماره للدال (الشَّتّ) في قوله بقصيدته (لا تعجلي ص71):
لا تتركيني أختنق
فالبعدُ يقتل خافقي
ويَهُدُنِي الشَّتُّ
   ويعتمد (بريك) أحيانًا على توظيف بعض عناصر ثقافة الدراعمة اللغوية النقية الأصيلة في تنضيد مشاعره، والتعبير عن ذاته المحبة، وهو مظهر دال على تقدير المبدع للغته.. من ذلك قوله في (تكلمي 32):
تَكَلَّمِي
تكلمي
يحيا الهوى في أحرفي
فَلْتَسْتَعِيرِي مُعْجَمِي
ويستخدم تقريبًا كافة أدوات التمني والترجي، مناجيًا الله تعالى أن يحقق أمنيته في اتفاق العرب، فيقول في (طال السرى ص18) :
يا رب، ليس سواك الآن يجمعهم    عسى.. وعلَّ.. وليت العُرْبَ تتفقُ
   ويمتلك (بريك) بما أنه درعميٌّ القدرةَ على التقفية التى تذكرنا بكبار شعراء العرب كالمتنبي والبحتري والبارودي، ففي نصه (فوق جدار الحزن ص101) مثلاً تتردد بالقافية الدوال: (عمالسُ، حنادسُ، غطارسُ...).
    هذه أصالة لغته والتي جاورها رقَّةٌ مستملحة تنسجم وذاته المحبة الرقيقة المتسامحة المبتسمة دومًا، يقول في (سراب ص11) كاشفًا بلغة رقيقة ودلالة دقيقة عن نفس شفيفة:
التقينا
فقسَمنا خَفْقةَ القلبِ مَعَا
وقسَمنا ضِحْكةَ الحبِّ مَعَا
ثم صار الضِّحْكُ نظراتِ وداعٍ
والليالي أدْمُعَا
وافترقنا
والثواني عابراتٌ في دمي
كَيَمَامٍ فرَّ مِن قُنَّاصِهِ، لن يرجِعَا
      (ويراجع أيضًا مقطعه الثاني من قصيدته "آه ما أقسى المسافة ص3")

     2/2 ولغة (بريك) من قبلُ ومن بعد عربية منفتحة، تتسم بتنوع مصادرها وهو تنوع دالٌّ على وعي بدوائر الانتماء للمبدع؛ المصريِّ.. الأكاديميِّ.. الإنسان، يستثمر (بريك) تعابيرَ جاهزة عربية أصيلة، تستصحب رصيدًا دلاليًّا مفهومًا للمتلقي، مما يسهم في تعميق التواصل، والألفة بين طرفي الإبداع من ذلك استثماره للتعبير (قلب ظهرَ المِجَنِّ) في قوله (زمِّلِي قلبكِ وهمًا ص22) :
قَلْبُكِ القُلَّبُ وَهْمٌ
فاقلِبِي ظَهْرَ المِجَنِّ
 ومنه استثماره دلالة التعبير (ضربة لازب) على الإتقان والقصدية في قصيدة (ليل العاشقين ص9):
إذا بانَتِ الأطيارُ عَاجَتْ لِإِلْفِهَا     وقد صار منكِ النأيُ ضَربةَ لازِبِ
   وأبرز مكونات لغة بريك في (قبل الشتات) هو التعبير القرآني؛ إذ تتردد كثيرًا جدًّا مفردات القرآن وتعابيره، ويستلهم المبدع عنه مضامين قصص الحق، يستثمر من حال موسى عليه السلام مع بني إسرائيل، ومن تعابير القرآن بسورتَيْ القَصَص والكهف، فيقول في قصيدة (طال السُّرَى ص18) :
الساحرون أفاعٍ في البلاد.. أتت
من كل صَوْبٍ، فَنَاخَ الرَّوْعُ والرَّهَقُ
//
جاءوا بسحرٍ عظيم في البلاد ضحىً
واسترهبونا، وكلَّ السُّفْنِ قد خرَقُوا
//
يا ربِّ هيئ لنا من أمرنا رشدا
فالموتُ موجٌ بأرض العُرْبِ يَصطَفِقُ

كما يستثمر من قصة يوسف عليه السلام مع إخوته، ومما ورد بالسورة أيضًا، فيقول في قصيدته (حب المجاذيب ص42) :
هَوَى الهَوَى نائيًا في بئر غُرْبَتِنَا     هل ثَمَّ سَيَّارةٌ؟ يا حُزْنَ يَعْقُوبِ !
   والاستثمار على النحو السابق، يتجاوز توظيف الدوال، إلى استلهام الرؤية الإبداعية في كثير من تفاصيلها من هدي القرآن وقصصه، بما يقرر تدارسًا لآياته وإيمانًا بقصصه تسرَّبَ إلى النفس فتشرَّبَتْه حتى صار منها وصدَرَتْ عنه.. ولذا فقد يتصرَّف (بريك) أحيانًا في بنية التعبير القرآني، لا ليتوافق التعبير مع تجربته.. بل لتصدر تجربته عن التعبير القرآني.. وإن بشيء من تصرفٍ إبداعي، يعرى تمامًا تمامًا عن تجرُّؤٍ يمارسه بصَلَفٍ وغباء بعضُ المحدَثين.. يصدر (بريك) عن قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام (.. إني أَسْكَنْتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكِ المُحَرَّمِ). فيقول بمطلع قصيدته (أعصر مهجتي شعرًا ص39) :
بوادٍ غير ذِي صبرٍ
                       زرعتُ الشوقَ والصبرَا
فعانق شوْقُنا الأشْوَا
                       كَ والصبَّارَ والمرَّا


    وتكثر أمثال هذه الاستلهامات عن القرآن بالديوان كما في (إنَّ بعدَ العُسْرِ يُسْرَا 30، المَنّ والسَّلْوَى، جَنَّةُ المَأْوَى 49، فتَبَّتْ يَدَاه 100، يجُوسُ خِلالَ الدِّيَارِ 105، وأعْطَتْ قَلِيلًا وأكْدَتْ 126..).
وتبدو دوائر انتماء المبدع (بريك) المتعددة.. المتكاملة.. وكذا ثقافته المتنوعة ماثلة جدًا في نصه (الصرخة ص96) حين تتردد بجنباته أعلامُ الفراعنة المصريين، وعَلَمُ الإيمان.. والجمال.. والمصرية أيضًا.. يوسف عليه السلام.. يقول (بريك) :
ليس تُجْدِي صرخةٌ (فأبُو الــ
ـهَوْلِ) غَافٍ في ثياب الرَّدى
//
إن (خُوفُو) سائرٌ شَعْبُهُ
نحو جوعٍ في القرى عربدَا
//
غارقون مُذْ زمانِ (رَعٍ)
ليس يُجدي أن تمدَّ يدَا
//
ذا (هولاكو) قد أتى خلفه
ألفُ سيف صارم جُرِّدَا
//
(يايَبُورٌ) كبَّلوا كفَّهُ
وأقاموا جاهلاً أمردَا
//
(أمنُحُتْبٌ) سَمَلوا عَيْنَهُ
ثم قالوا : صِدْ لنا عَنْقَدَا
//
ليس فيهم (أحمسٌ) صارخًا
ليس فيهم (يوسفٌ) قد هدَى
    وتوظيف الأعلام دون تصرُّفٍ ينال بنيتها على النحو الوارد، مع استقرارها بمواقعها ووضوح دلالتها كاشفٌ عن مبدع أكاديمي، يمتلك أداتَهُ ولغته، ويطوِّع ثقافته في سلاسة بإبداعه... كأنه بهذا يعزِّزُ دَرْعَمِيَّتَهُ وأكاديميته وإبداعه بمسلك واحد.
   ويبدو في النص إيمان المبدع بوطنه وتاريخه وتراثه إيمانًا يملأ كيانه، مدعومًا بإيمان يتَّسع لكل نبيلٍ ووطني صادق.
   أما وضوح الدلالة فَمَلْمَحٌ أسلوبيٌّ بارز، بدا واضحًا ومبكرًا من عتبات النصوص، حين حرص (بريك) في كثير من العتبات أن تكون في إطار جملة اسمية أو فعلية، والعتبة بذاتها نصٌّ مُوَازٍ.. يحمل دلالة، تتماهى في أكثر الأحيان مع دلالة متن النص (على نحو ما جاءت أكثر نصوص قبل الشتات)، وقد تضيف إليه، وربما فارقته إلى دلالة مخالفة.. تضليلية جاذبة، أو إيهامية، مثل عتباته (أودُّ أن أعيش في سلام 23، ليس الهوى بحرام 67، إنما تعلو على السطح الجيف 114، الخروج عن القطيع 115، نعيش في خرافة 136) وقد مثلت هذه العتبات ببنائها اللغوي مقاصد المبدع من نصوصه، ما يقرر حرصه على التواصل مع المتلقي وعلى بيان الرسالة الإبداعية ووضوحها في إجراء يبدو الشعراء الرِّسَالِيُّون أمثال (بريك) الأوفر حظًّا منه. بل إن العتبات المفردة الدال أسهمت هي الأخرى في هذا الوضوح، وربما تحملت هذه الأخيرة رصيدًا أوفى من التشويق، على نحو ما كان في عتبتي (الوضيع 113، مسخرة 133).
    ومن آليات استنبات الوضوح الدلالي بالديوان.. ما يتصل بالشكل الطباعي، أو تنضيد الكتابة على نحوٍ خاص، ولا يُسْأَلُ عنها سوى المبدع ذاته، ذلك حين وزَّع على بياض الصفحة وسطورها شعرَهُ العموديَّ ذا الرويِّ الرأسي المتحد، وكأنه من شعر التفعيلة في مسلك ظاهره شكليٌّ حداثي، وباطنه من قِبَلِهِ وضوحُ الدلالة.. من ذلك قوله في (أغنية وصدى ص46) على النحو الآتي، مفرِّقًا بين دواله، بما يسمح بالوفاء لكل دالٍّ بحقه الصوتي.. الزمني، لتتجسَّد الدلالة.. يقول على "البسيط" وروي القاف المطلق:
عُودِي.. ارحَلِي.. ابتعِدِي
نامِي.. انتشِي.. انتفشي
قد خُنتِ أغنيتي
قد خُنتِ أشواقي
  ومع أن الوقفة ينبغي أن تكون لحظية بالإنشاد، حتى تستقيم تفعيلتا البحر (مستفعلن، فعلن)، وتبقى الألفات وصلاً لا فصلاً، فإنها كتابيًّا فاعلةٌ على أية حال في تجسيد الدلالة ووضوحها.
  مرة يتيمة تلك التي نزع فيها الوضوح الدلالي إلى قريبٍ من المبَاشَرِيَّةِ، ربما قصد المبدع إلى ذلك، وربما ضيَّقَ الإيقاعُ على الدلالة مجاري وضوحها، فاتسم الموضع اليتيم بشيء من المباشرية، كما في قصيدة (الوضيع ص113).
   2/3 يعتمد (بريك) في ديوانه (قبل الشتات) على تقانة التكرار كثيرًا، وغايته منها دلالية دومًا، تُعنَى بإبراز العنصر الدلالي الأكثر إلحاحًا بذات المبدع، في علاقته بالآخر وتعاطفه معه، وحنوِّه عليه. الذات والحبيبة.. وجماهير الأمة بواقعها المنكود، ثلاثية وظَّفَ المبدعُ التكرارَ لإبراز شواغلها كذلك. وقد يكرر (بريك) لهذه المقاصد الإبداعية الدلاليةِ الدالَّ المفرد أو الجملة أو التعبير.. وربما المقطعَ أو البيت.
   والحبيبة هي أبرز من كرَّر المبدع دوالَّ تخصُّها بالديوان، يكرر كثيرًا الضمير (أنتِ) في خطابه للحبيبة واسِمًا إياها بالإسناد الاسمي الخبري، بكل جميل.. يقول في (حقيقة وسراب ص56) :
أنتِ الحقيقةُ، والنساءُ سرابُ
والحبُّ أنتِ ربيـعُهُ الخَلَّابُ
//
أنتِ الهوى والشوق يا أنشـودتي
وطيور شوقي في الهوى أسرابُ
    يسهم في إبراز الحبيبة هنا، عدة تقانات ثانوية، أولها تصدُّرُ المكرَّر في أكثر مرات تردده، إذ يحتل مفتتح البيت في اثنين من ثلاثة، ثانيها المقابلة بين الحقيقة بالتعريف، وسراب بالتنكير، بما يضفي مقابلة تنسحب بالضرورة من الخبرين إلى المبتدأين، فالحبيبة (أنتِ) لسابقه (الحب)، وابتدائيته للاحقه (ربيعُهُ).. ومع يقيني فى أن التركيب النحوي الصفري (المعياري) في غير الشعر هو (أنت ربيعُ الحبِّ الخَلَّاب)، فإن توسط الضمير بين عناصر التركيب الإضافي، أبرز مَنْ يعود إليها الضمير (الحبيبة) على نحوٍ أو آخر.. وربما (رابعًا) دعم العطفُ بآخر مرات التكرار إبراز مكانة (الحبيبة) إذ ليست واحدة من الهوى أو الشوق، بل هي كلاهما معًا.
ومثل ذلك تكريره أيضًا للضمير (أنت) بمدى أبعد، إذ يقول عنها في قصيدة (حتى تضيء الشموع ص54) :
لَأَنْتِ الشتاءُ، وأنتِ الربيعْ
وأنت الحنينُ، وأنتِ الدموعْ
//
وأنت الهوى يا ابتسامة عمري
وأنت بليلِ الحيارى شُمُـوع
//
وأنت الفؤادُ الذي يحتويني
وأنت الهوى والجوى في الضلوع
//
عيونك بحري ومِجْدَافُ روحي
وأنت الجمال النقيُّ البديـع
//
    وربما كرر (بريك) الجملة، يحضر فيها الحبيبان، فيبدو النص مع التكرار أغنيةً، يسعد معها المبدع بتكرير دالِّه. كاشفًا عن حبه وهيامه.. بتكرير (أهواك).. يقول في (مجدف الحنين ص60) :
أَهْوَاكِ يا فاتْنَتِي
يا بسمةَ الربيعِ
//
يا صرخة يائسةً
تَئِنُّ في الضلوعِ
//
أهواكِ يا ابتسامتي
أهواكِ يا مرارة الدموعِ
//
أهواكِ والحنين مجدفٌ
يسبِّحُ الإلهَ في خشوعِ
   وربما يكرر بالنص الواحد عدَّةَ عناصر، بعضها يخصُّ المبدع، وبضعها الآخر يخص المتلقي (الحبيب) وثالثها يشترك فيه الطرفان.. في عملية تحوُّلٍ لغوي دلالي، تكشف عن تمازج الحبيبين، وانشغال المبدع بحبيبته، وهيامه بها، يقول في (الآن أريد 58) :
والآنَ أُرِيدْ
أريدُ..
أريدُ...
وألفَ أريدْ
والآن أريدُكِ أنتِ
أريدُكِ قلبي
أريدُكِ حبِّي
أريدُكِ كلَّ حياتي
فأنتِ فؤادي
ومنبع حبي
وأنتِ الوجودْ
   التكرار إذن ليس تقانة بسيطة بديوان (قبل الشتات) يتكرر فيه الدال المفرد بإلحاح، بل يتحول المبدع بالتكرار من دالٍّ إلى آخر، وربما استصحب أحدُ الدوال المتكررة دوالَّ أخرى متجانسة، بتكررها معه تتعزز الدلالة.. ويجمل الإيقاع، من ذلك استصحاب الدال (أَلْف) للدوال: (بغيٍّ، تقيٍّ، دعيٍّ) على الترتيب، ثم تحوله عن هذا إلى تكرير الدال (سلام) قاصدًا من تكراره دومًا إلى إبراز تعاطفه مع المستضعفين.. الطيِّبين.. الجوعى.. الخائفين.. يقول في قصيدة (كل شيء بمصر على ما يرام ص106) :
أناسٌ هنا يسْعَلُون
تُزَمْجِرُ في صدرهم ألفُ آهٍ
وجفَّ بجَوفِ السُّعال الصَّهيلْ
ومات الكلامْ
وألفُ بَغِيٍّ.. وألف تقِيٍّ
وألف دَعِيٍّ
يُزَيِّنُ للمتَّقِين الحرامْ
أجل.. كلُّ شيءٍ بمصرَ على ما يُرامْ
سلامٌ على الطيبين بمصر، ينامون جوعى
سلامٌ على الخائفينَ
سلامٌ.. سلامْ
    وبخلاف تكرير المطلع بالمقطع (كما في نصَّيّْ: أود أن أعيش في سلام 23، الصرخة 96) فإن "بريك" قد يبدع نصه كاملاً شاملاً عتبتيه؛ الفاتحة والخاتمة متَّكِئًا على التكرار قبل أية تقانة أخرى دائمة.. ومن الحق فإن تكريره للتعبير (خَبِّئْ دُموعَكَ 134) مضافًا إليه النداء (يا صديق)، يكشف عن مبدع رقيق إنسان، فطرته مجبولة على السمو والنبل والنفع لغيره، وبخلاف العتبتين فإنه يكرر التعبير ولواحقه الإنشائية (أمر ونداء) خمس مرات تشمل سائر النص وتشكِّلُ مفاصله الدافعة؛ إذ ينطلق في كل مرة مع المتكرر إلى جديد، يربُتْ من خلاله على كتف الحزين المقهور، داعيًا إياه إلى الإيجابية، وتجاوز الانكفاء على آلام الذات.. إنه التحدي النفسي الفاعل، ولذا فتحويل الواقع المحزن لابد أن يمر عبر الذات الباذلة والمنشئة لفعل مضادٍّ، ولذا كانت المقابلة داعمة للتكرار؛ هكذا: (خبئ دموعك.. وابتسِمْ - خبئ دموعك - اضْحَكْ وأَضْحِكْ) يقول المبدع الأكاديمي (محروس بريك) :
خَبِّئْ دمُوعَكَ يا صديقْ
ما عاد يُجْدِي دمعُنا
والخطو قد ضَلَّ الطريقْ
خَبِّئْ دمُوعَكَ يا صديقْ
خَبِّئْ دمُوعَكَ.. وابتسمْ
 فلعلَّ بسمةَ حائرٍ
تغدو سفينةَ ذلك الشعبِ الغريقْ
ولعل بسمةَ شاردٍ
من فيضِها اتَّسَعَ المضيقْ
خَبِّئْ دمُوعَكَ يا صديقْ
فأنا وأنت وذلك النيلُ الحزينْ
إنّا خُلِقْنَا من دموع الطيبينْ
والليلُ ذئبُ الطيبينْ
خَبِّئْ دمُوعَكَ يا صديقْ
اصنعْ صباحًا زائفًا
فالليلُ يُقعي في الطريقْ
اضْحَكْ وأضْحِكْ
احْكِ للصحبِ الحكايا المُضحكاتْ
فالناسُ مَلَّتْ ذلك الحزنَ العتيقْ
خَبِّئْ دمُوعَكَ يا صديقْ

 

تعليق عبر الفيس بوك