الوداع العربي للمونديال

حاتم الطائي

خرج العرب من مونديال "روسيا 2018"، وانتهتْ مسيرة لم تَبْدأ بالأساس، وانطفأ وهج الإنجاز التاريخي بتأهُّل أربعة فرق عربية لأول مرة في تاريخ منافسات البطولة، وعادتْ مَعنويات الجماهير للمربع صِفر، بعد انخفاضِ أدرينالين التشجيع بروح القميص واسم البلد المشارك، وحلَّت خيبة أمل كبيرة، لم تكن بالنسبة لي -بكل صراحة- مُفاجِئة، كاستنتاج طبيعيٍّ لحصاد عربي طوال تاريخ البطولة، لم يشهد سوى 19 تأهلاً، دون تخطٍّ للدور الأول سوى مرتيْن فقط، بنزيف نقاط يؤكد أننا بعيدون تمامًا عن تحقيق أي مفاجآت، ولا حتى "التمثيل المشرف" الذي أتحفَّظ عليه كمصطلح -باعتباره مرادفة لقتل الطموح أو "الفشل المقبول"- فبعد الخسارات المتوالية التي منيت بها منتخباتنا، انتقلنا من مرحلة جَلد الذات إلى جَلد المنتخبات، وصولاً لجلد أمَّة بأكلمها تتموضع في منطقة المراقب الخارجي، دون أن تملك صورة واضحة لما يحدث، حتى انتشرَ عبر وسائل التواصل الاجتماعي اليوم شرحٌ افتراضي لاختصار كلمة (FIFA) بأنها (Football Isn’t For Arab)، أي: كرة القدم ليست للعرب.

على أية حال.. أنا هنا لا أتقصَّد تشكيكًا في جَهْد ونوايا لاعبي مُنتخباتنا العربية، ورغبتهم في تحقيق الفوز لبلادهم ولنا جميعا، ولا حتى الأجهزة الفنية أو المدربين، ولكنْ عبارة "العرب أول من يصل، وأول من يغادر" لها وقعها الداعي لإعادة التفكير ليس في أسباب هذه الإخفاقات أو إمكانية تلافيها، إذ ما زلت مقتنعاً بأنَّ الفكر الذي تحتكم إليه منظومة الرياضة العربية ككل بحاجة لتغيير كامل، فنحن لا نعاني قلة مواهب، أو عدم وجود لاعبين من طرازات رفيعة؛ فأغلب الأسماء المشاركة مُحترفة بدوريات أجنبية ممتازة وتقدِّم معها مستويات رائعة، وإنما الإشكال الحقيقي في التعامل الروتيني والنظرة المحدودة للرياضة على أنها مجرد مجهود بدني فحسب، وغاب أنَّ الرياضة اختصارًا هي "بناء الإنسان"، وجزء لا يجزأ من منظومة شاملة تُشكِّل المجتمعات، تعكس مستويات التقدُّم والرُّقي الاجتماعي والتنموي؛ فالحكومات المستقرَّة سياسيًّا هي التي تبحثُ دائمًا عن التميُّز وتحقيق إنجازاتٍ عالميةٍ في الرياضة، وتوفِّر في سبيل ذلك الموارد والخُطط اللازمة، وفق أهداف مرسومة بعناية؛ باعتبار التمثيل الخارجي تتمَّة لمنجز داخلي يغطِّي كافة المجالات استقرارًا ورخاءً وصحةً وتعليمًا ارتقت وأثمرت التفوق، ونظرة سريعة على تاريخ أي بطولة عالمية تُوصلنا بلا عناء إلى هذه المسلَّمة؛ فالمنتخبات صاحبة المراكز الأولى -بل وحتى الدول التي حظيت بحقوق الاستضافة- استطاعت أن تعكس حجم التطور الذي وصلتْ إليه حكوماتها، من تقدُّم وانتهاجٍ ديمقراطيٍّ لحُكمٍ رشيد، بينما مُمثلو الدول التي تفتقر لأيٍّ من تلك المبادئ الأساسية -الاستقرار، والأمان، والعدالة، والمساواة، والحريات، وتكافؤ الفرص- لم تستطع أن تظهر باتزان يَضْمَن لها ولو المنافسة على أي بطاقة تأهل للأدوار النهائية.

وكأحد الأمثلة التي استوقفتني في مونديال هذا العام، الأداء القِتَالي للمنتخب الأيسلندي الذي لم يفقد بريقه حتى اللحظة، رغم حظوظه القليلة في أن ينافس على التأهل، وهو مثال عملي على طردية العلاقة بين قوة التنمية وقوة المنتخب الممثل للدولة خارجيًّا، فأيسلندا البلد الصغير جدا -مجرد جزيرة فى المحيط الأطلنطي- ترتيبها الرابع عشر عالميًّا بين الدول الأكثر تقدمًا، استطاعت التأهل للمونديال والمنافسة فيه بقوة بلاعبين غير مُحترفين -5 أطباء، ومخرج سينمائي، وعازف موسيقي، ومحامٍ، وآخر سمسار عقارات- وكأنهم يريدون إيصال رسالة إلى العالم بأنَّ ترتيب الدول على مؤشرات النماء العالمي، هو إكسير يخلق توحيدًا في الهدف والجهود بعملٍ جماعي يُطلق الطاقات، ويُبرز المواهب، أرادوا أن يوصلوا رسالة بأنَّ الرياضة جزءُ من منظومة عامة للمجتمعات ترتبط بمختلف مقاييس التنمية التي تستهدف بناء إنسان مُعَاصِر قَادِر على مواجهة التحديات، واعتلاء منصات التكريم في أي مكان بالعالم.

مُفارقة أخيرة يحملها الخروج العربي من المونديال، وهي فارق نفسي وأدبي كبير بين اللعب لأندية واللعب لمنتخب يُمثِّل دولة، بكلِّ ما يرمز إليه ذلك من دلالات، مُمثًلا بغياب العمل الجماعي كأساس للعب الرفيع في عالم الساحرة المستديرة، وكلعبةٍ جماعية تعكس قواعدها روح الفريق بعيدًا عن تعليق الآمال في أقدام لاعبٍ واحدٍ، كما حَدَث مع اللاعب الدولي محمد صلاح نجم منتخب مصر، وتيسير الجاسم بالمنتخب السعودي، في انعكاسٍ آخر لأحد مظاهر التفكِير المشوش كملمحٍ بارزٍ للمنظومة العربية ككل.

ويبقى أن أقول: إنَّ تراجع الأداء العربي، والتمثيل الخارجي دون الطموح في المنافسات الرياضية الدولية، إنما هو انعكاسٌ لواقعٍ اجتماعيٍّ مأزوم في كل مستوياته؛ وبالتالي فإن الوصول لكأس العالم أمرٌ لا يستحق كل هذا الفخر، كما أنَّ الخروج منها لا يستحق كل هذا الحزن، وإنما ما يستحق الفخر فعلًا هو مستوى تعليمك، وصحتك، ورفاهية مواطنيك، ودرجة العدالة القانونية، والمساواة، وتكافؤ الفرص، ووزنك بين الأمم.. وأنَّ سؤالًا عن متى يفوز منتخب عربى بلقب كأس العالم؟ سيظل طرحه بكل تأكيد غريبًا جدًّا وغير مُقنِع، إذا ما ظلت الحال على ما هي عليه.