الخَالق ومِلاك الحاجة إليه:

تأملات فلسفية في الأسماء الحُسنى والصفات العُليا(9)



محمد بن رضا اللواتي - مسقط
نذكر القارئ بأننا، وبتفعيل نظرية "أصالة الوجود" في الحلقة المارة، والتي "كشفت لنا بكل معانيها وأبعادها الفكرية الواسعة عن ملمح إبداعي غفل عنه الكثير من الدارسين(1)"، استطعنا أن نصل إلى تخوم الرؤية التي منحتنا تصورا دقيقا جدا ومُحاطا بالجزم المنطقي أن حقيقة الوجود حقيقة أصيلة لا غير لها في الخارج إذ ليس غير الوجود إلا العدم وهو باطل الذات، فيغدو الوجود الواجبي "صرف لا عدم معه، فله كل كمال في الوجود(2)".
الرؤية أعلاه تضع بين أيدينا فهما حول طبيعة وجوب الوجود الداخلية، نستطيع على ضوءه أن نعرف نمط المعضلة التي عانى منها جماعة من فلاسفة أوروبا، من أمثال "هيجل"، حول العلة الأولى، وكيف أضحت علة أولى.
فلقد تصور هؤلاء السادة أن الخالق كالمخلوق، يقف معه على مصاف واحد، وثم، ولسبب غامض، أضحى خالقا وعلة أولى لكل ما سواه، في حين، كان بإمكان أي شيء سواه أن يكون كذلك، فلم هو وليس غيره؟! لقد تصوروا أن الوجوب والغنى "يعرض" على الخالق فيغدو خالقا، وكل من هو غيره يقبل أن يتعرض لهذه الحالة فيغدو كذلك!
و"لراسل" محاضرة ألقاها عام 1927 تحدث فيها سبب تبنيه للإلحاد، قال : "أعترف أنه خلال وقت شبابي عندما كنت أعطي هذه الأسئلة الكثير من الجدية و الأهمية كنت أعتقد بصحة حجة المسبب الأول إلى أن قرأت ، في عمر ال 18 سنة، سيرة حياة جون ستيوارت ميل حيث وردت الجملة التالية: "علمني والدي أنه لا توجد إجابة عن السؤال: من خلقني؟ لأن السؤال التالي سيكون: من خلق الرب؟" هذه الجملة القصيرة هي التي أوضحت لي مغالطة هذه الحجة".  
ومحصلة كلامه:
"إذا كان لكل شيء مسبب يجب أن يكون للرب مسبب أيضا. إذا وجب وجود شيء بدون مسبب، يستطيع هذا الشيء أن يكون العالم"(3).
ولكن، و"وفقا لأصالة الوجود، الوجوب عين حقيقة الوجود، لا كيفية إنتساب الوجود إلى الواجب، وكذلك الإمكان فهو عين الوجود الفقير لا كيفية إنتساب الوجود لذات الأشياء(4)".
أصالة الوجود تطيح بهذا السؤال وتجعله "بلا معنى أصلا ولا يمكن طرحه فلسفيا(5)"، ذلك "لأن لكل ناقص علة، والله صرف الوجود الذي لا أتم منه، هذا يتسق مع أصالة الوجود والتي تشترط في خطوطها العريضة أن يكون الوجود هو الأصيل"(6).
إتضح إذن، أن طبيعة الوجود تقتضي بذاتها، وليس بشيء آخر، الغنى والاستقلال، "فالمرتبة العليا الفريدة للوجود ذاته لا حد لها بأي صورة وتقتضي بذاتها الضرورة الأزلية(7)". فإذا تساءلنا عن السر الذي يجعل من الخالق خالقا، ومن وجوب الوجود غنيا، فالأجابة الحاسمة هي أن "مناط واجبية الوجود سببها الوجود الغني عما سواه أو الوجود بذاته لذاته"(8).
الآن وقد ظهرت الشفرة السرية للغنى في وجوب الوجود، لنقلب السؤال ونبحث عن سر ومِلاك الحاجة في الكائنات، ما هو؟ لم يبدي "راسل" إهتماما مباشرا في هذا اللغز، إلا أن جماعة من المحققين المسلمين قضوا فيه ردحا من الزمن يحققون، تمخضت أبحاثهم عن المواقف الفكرية التالية:
الموقف الأول: أن مِلاك وسر الحاجة في الكائنات يكمن في "الحدوث". هذه الإجابة تبنتها مجموعة من المدارس الكلامية والتي بموجبها يغدو سر الغنى في الواجب كامنا في "القدم"، فالقديم الزماني يحوي سِر الاستقلال عن الحاجة، بينما الحادث الزماني يحوي سِر الاحتياج. وعليه لا "قديم" إلا الله.  
الموقف الثاني: أن مِلاك وسر الحاجة يكمن في "الإمكان" وليس الحدوث. هذا هو الموقف الذي تبناه الفلاسفة ومقصودهم من "الإمكان" حالة "التساوي" أمام تقبل الوجود أو البقاء في العدم. "فالممكن" لا يقتضي من ذاته لا الوجود ولا العدم، فهو يعاني من "خلاء" في ذاته، وهذا الخلاء يقوم "الغني بالذات" بتعبئته، وهنا مكمن الاحتياج فيه إلى "الخالق".
الفلاسفة وجهوا عدة نقود غاية في الاتقان للطرح الكلامي، أوضحوا فيه ضعفه. إنهم يقولون بأن علماء الكلام ذهبوا يحققون في "زمن ما قبل وجود الكائن" بحثا عن حل اللغز، في حين أنه كان ينبغي عليهم البحث في هوية الكائن وعمق كيانه لاكتشاف السر(9). ولو أردنا تقديم توضيح للمسألة بمثال، فلنتصور أننا أشعلنا مصباحا يصدر ضوءا عاليا، ثم تساءلنا: أين يكمن سِر احتياج الضوء إلى المصباح؟
ذلك، لأننا سنكون أمام ظاهرتين، الأولى: صدور الضوء وتوهجه بعد أن لم يكن متوهجا، والأخرى: ارتباطه بالمصباح.
فهل مِلاك الاحتياج فيه كونه لم يكن مضيئا قبل، أم أن السر يكمن في ارتباطه بالمصباح؟ جزما يقع سر الاحتياج في ارتباطه بالمصباح وليس لأنه لم يكن مضيئا من قبل. فلو مددنا عمر الاضاءة هذه إلى أيام، بل وأشهر وسنين وإلى ما ليست له بداية، لن يُخرجه من حاجته إلى الارتباط بالمصباح. ومعنى ذلك أن حدوثه ليس سببا في الاحتياج، كما وأن قدمه لن يسعفه في الفكاك عن المصباح والاستغناء عنه. والمحصلة هي أن ارتباطه بالمصباح والذي يعني حاجته الذاتية له بسبب خلوه من الوجود، أي إمكانه، هو السر في الموضوع(10).
الموقف الثالث: وهو الموقف الذي تتبناه "الحكمة المتعالية" بناء على "أصالة الوجود"، فرغم دقة ردود الفلاسفة على نظرية الحدوث الكلامية، وبيانهم العميق لهشاشتها، إلا أن "صدر الدين" نفذ إلى الأعماق بنحو أشد وظفر بالسر. فبعد أن تأصل الوجود، ما عاد "الإمكان" وصفا واقعيا يرتبط بالموجود، بل مفهوم ذهني يعين على التحليل العقلي للمسألة فحسب، وإلا، فالموجود قبل الإيجاد ما كان في مكان ما وهناك كان يتصف بالإمكان، وبعد أن وُجد، ما عاد ممكنا، بل واجبا للوجود ولكن "بالغير"، فأين بات الإمكان بعد؟
لا يوجد له أثر في الخارج!
من هنا قلب "صدر الدين" الإمكان" إلى "الفقر"، كتب "الصدر" موضحا ذلك يقول: "وهذه هي نظرية الإمكان الوجودي للفيلسوف الاسلامي الكبير صدر الدين الشيرازي، وقد انطلق فيها من تحليل مبدأ العلية نفسه وخرج من تحليله ظافرا بالسر، فلم يكلفه الظفر بالسبب الحقيقي لحاجة الأشياء إلى عللها أكثر من فهم العلية فهما فلسفيا عميقا(11)" وقال: "إن الحقائق الخارجية التي يجري عليها مبدأ العلية، ليست في الواقع إلا تعلقات وارتباطات، فالتعلق والارتباط مقوم لكيانها ووجودها، ومن الواضح أن الحقيقة إذا كانت حقيقة تعلقية، أي كانت عين التعلق والارتباط فلا يمكن أن تنفك عن شيء تتعلق به وترتبط به ذاتيا(12)".
نعود في الحلقة القادمة إلى "الخالقية" الإلهية مجددا، لنرى هذه المرة، وبعد ثبوت تعلق الكائنات فقرا به، كيف يمكن لها أن تكون ذات إرادة وإختيار حُر، وكيف لتأثير الفواعل في أنحاء الكون أن يظل تأثيرا لها، في حين الكُل ربط بالساحة الإلهية، فقير إلى الخالق بالذات؟
.......................
المصادر:
1)    من مقدمة صلاح الجابري على "أصالة الوجود من مركزية الفكر الماهوي إلى مركزية الفكر الوجودي" لمؤلفه الشلبي، كمال عبد الكريم ص13.
2)    الطباطبائي، محمد حسين: نهاية الحكمة. ج1ص96. صححها وعلق عليها عباس علي الزارعي.
3)    المصدر السابق ص380.
4)    مطهري، مرتضى: شرح المنظومة ص221. تعريب عمار أبو رغيف.
5)    الشلبي، كمال عبدالكريم: أصالة الوجود عند الشيرازي من مركزية الفكر الماهوي إلى مركزية الفكر الوجودي. ص187
6)    المصدر السابق ص187
7)    بدر، عادل محمود: برهان الامكان والوجوب بين إبن سينا وصدر الدين الشيرازي ص115.
8)    المصدر السابق ص147
9)    مطهري، مرتضى: شرح المنظومة ص380. ترجمة عمار أبو رغيف.
10)    مطهري، مرتضى: بحوث موسعة في شرح المنظومة: ج4ص25، ترجمة: عبدالجبار الرفاعي
11)    الصدر، مع باقر: فلسفتنا ص276
12)    المصدر السابق ص276

 

تعليق عبر الفيس بوك