العبث بالتاريخ يُفسد الجغرافيا

 

علي بن مسعود المعشني

كثيرة هي محاولات البعض للعبث بالتاريخ وبالنتيجة إفساد الجغرافيا، فالتاريخ عادة يٌشكل الجغرافيا ويطوعها بسنن مده وجزره المتعارف عليها، والتاريخ يصنعه الأقوياء ويدونونه لهذا فالتاريخ لايتوقف بل نجده في حراك مستمر بداخل الجغرافيا بينما الجغرافيا ثابتة لاتتحرك.

لابأس - بالنسبة لي - من إعادة قراءة التاريخ لتصحيح الحاضر وإنصاف المظلومين وتبصير النَّاس بالحقائق، فعلم التاريخ تحكمه حقائق جلية وقواعد صارمة لفرز الغث من الثمين والأصيل من الدخيل والحقيقة والزيف. فللتاريخ قراءتان قراءة توثيقية سردية للأحداث وكما تم تدوينها دون تمحيص أو تدقيق وقراءة أخرى علمية  ناقدة يُصاحبها العقل والمنطق وجملة أدوات يعرفها الباحثون فيه من أعلام وسير ونقل وعقل وقياس وعلم التجريح وهي قواعد علمية عامة عند العرب في جميع علومهم  قبل أن يختزلها البعض اليوم في العلوم الشرعية أو علم الفقه على وجه التحديد.

ومن أكثر الناس شغفًا بتزوير التاريخ من ينبتون كالفطر فجأة على الجغرافيا دون تهيئة أو سابق إشعار، حيث يُنقبون لهم عن جذور ويقلبون وجوههم  في أروقة الأرض وفي جنبات سنوات التيه بحثًا عن تاريخ، وهذا أمر مؤرق ومفهوم عبر مراحل التاريخ وأطواره  لأقوام تطفلت على التاريخ وأخلت بسننه وقواعده لتدخله قسرًا وخلسة ولكنه لفظها دون طقوس أو مراسم.

وفي التاريخ السياسي المُعاصر على وجه الدقة والتحديد – وهو محور حديثنا وصُلبه - نال البشرية نصيب وافر من الحروب والمُعاناة بزعم الاستحقاق التاريخي ولنا في القرن العشرين فقط شواهد لاتُحصى من هذه الصراعات، بعضها منطقي والبعض الآخر مفتعل وأملته القوة وحب الهيمنة والأطماع  والتوسعية في زمن القانون الدولي والشرعية الدولية والتحرر وهو ما لم يعد مقبولًا أو مستساغًا بمنطق اليوم.

لذا شرعت الأسرة الدولية وأقرت بغالبيتها ماورد من نصوص في بيان اللجنة الرابعة لتصفية الاستعمار بالأمم المتحدة والذي بموجبه تقر كل دولة موقعة عليه بالاعتراف بالحدود الموروثة  لها من قبل الاستعمار، وهذا البيان شكل عصمة وحقنًا للشعوب من الصراعات والحروب لأسباب تاريخية وفتح المجال في المقابل لتسوية جميع تلك الادعاءات  والخصومات التاريخية بالطرق السلمية بين أطراف النزاع كون ثلاثة أرباع دول العالم لها ادعاءات تاريخية بمناطق وجغرافيات بعينها ولو فُتح الباب لذلك بالطرق العنيفة لاشتعل العالم حروبًا ونزاعات ولتمَّ تقسيم دول العالم على خارطة لاتنتهي من الصراعات وبعث الخصومات.

العقلاء يعلمون جيدًا بسنن التاريخ وأحكام الجغرافيا ويزاوجون بينهما بتناغم كبير لا يخل بأيٍّ منهما، فوشائج التاريخ لاتلغي أحكام الجغرافيا بل تقوي من عُراها وتوثقها مهما كان التواصل التاريخي بتدافعه ومده وجزره كونه حقائق ومسلمات في سيرورة الحياة وتدافع البشر. المشكلة في من يتوق إلى اختلاق التاريخ واستنطاقه قسرًا ويتعدى عليه ويقتطعه من واقعه وهو يدرك بكامل وعيه وإرادته أنَّ فعله هذا يُفسد التاريخ والجغرافيا معًا ويجلب له المتاعب المجانية.

لايدرك الكثير منِّا اليوم أنَّ التاريخ مازال حاضرًا ويُصنع كل يوم ومن فاته غابر التاريخ وأوسطه فالتاريخ المعاصر لازال يتشكل بأيدينا وبين أعيننا ولم تطوى صفحاته أو تجف أقلامه بعد وكما يشيع النرجسيون ودعاة الأحلام ويروجون لنهاية التاريخ، فحري بمن يتوقون إلى كتابة التاريخ أن يملأوا صفحاتهم بما يليق بهم ويخلدهم في بيض صحائفه وأنصع مفاخره بدلًا من الاشتغال على انتحال تاريخ الآخرين فيخسرون الحُسنيين سُنن التاريخ ومحاسن الجغرافيا.

ويبقى أن أقول إن هناك تاريخاً أهمله التاريخ ولايقل أهمية عن التاريخ ذاته سواء بالهجر أو الجهل أو التجاهل، ومن هذا التاريخ المُهمل هو سير الأشخاص ممن صنعوا التاريخ وكانوا من أبطاله ومواده أو ما يٌعرف بالجانب الإنساني لصناع التاريخ حيث يعتقد البعض أنَّ السير لاتخدم التاريخ بينما تٌشكل للباحث التاريخي مادة دسمة لإقرار أو نفي بعض المواقف أو الزيف والتي تتنافى مع طبائع وأخلاق وقيم الأعلام  والرموز التاريخية أو تتطابق معهم.

وبالشكر تدوم النعم

-------------------------

قبل اللقاء: الجغرافيا تتقلب وتدور وتضيق وتتسع في التاريخ، والتاريخ يقلب الجغرافيا ويٌخضعها لسيرورة مده وجزره .

Ali95312606@gmail.com