أمين دراوشة – أديب وناقد فلسطيني – رام الله - فلسطين

يلعب المكان في الشعر الحديث دورا مهما في بنية النّص الشعري المعاصر، ولكونه الحيز الذي تجري فيه الأحداث، وتقوم الشخصيات بنشاطاتها داخله، فقد عدّه بعض النقاد العمود الفقري للنص. (1)
كما يعمل المكان على إثارة  الوهج الشعري بكل بنياته المتداخلة، والمكان له السلطة الأقوى على المكونات الشعرية في النص، وله وقعه المؤثر على المتلقي، فهو دالّ يحمل الكثير من الحمولات الوجدانية والفكرية والتاريخية، فالمكان هو "هوية العمل الأدبي". (2)
فكيف ظهر المكان في شعر سلسع؟

حيفا المدينة التي لا تنسى
يمثل المكان كل شيء بالنسبة للإنسان الانتماء والمأوى الذي يجد فيه راحته وطمأنينته. ولا شك إن الشاعر هو خلاصة تجربته في الحياة، والمكان هو التجربة الحقيقية، فحيفا ويافا والقدس في شعر د. جمال سلسع تعبر عن أجزاء من حياته ولا شك.
يقول في قصيدته الطويلة "على حبلِ الغيابْ":
"تركتُ ظلالَ ذاتي...
بينَ أوجاعِ المنافي
دمعةً...!". (3)
في القصيدة يتحدث الشاعر عن منفاه، وعن فقدانه لذاته، ومن خلال الأسئلة (كيفَ ضاعتْ من يدي...همساتُ نورٍ؟ ، كيفَ أتعبني الغيابُ؟...) يستمر بالحديث عن حيفا ويافا، والشوق الحارق لهما، فهما في القلب والروح، يقول:
"وآهَ...
قلتُ يا ألقاً...
يمورُ بقلبي
لا...لا....تنطفي
لا شيءَ غيرُكَ،
من يُضيءُ طريقَ حلمي
في الضبابْ!
على نسيانِ ذاكرتي
تُلَملِمُ فيَّ تعزِيةُ،
حَنينُ الشوقِ". (ص 9)
فالشوق الذي يخلخل حياة الشاعر، ولا يجعله يستكين، يرحل به، يقول:
يَحمِلُني...
فينهضُ في دموعِ البرتُقالِ،
يَهزني شجرُ...
على أوجاعَ يافا...
في يديه سراجُ أمِّي
كيفَ تخطُفني الظنونُ،
ولا يزال سراجُها
فيَّ الإيابْ؟". (ص 9-10)
يكرر الشاعر كلمة السراج العديد من المرات، والسراج معناه حسب المعجم الوسيط
"مِصْبَاحُ زَيْتٍ مُكَوَّنٌ منْ إنَاءٍ في وَسَطِهِ فَتِلةٌ تُضِيءُ"، وهو في يد أشجار حيفا ويافا ينير دربه في عتمة الغربة، ويدله على طريقه الصحيح، وبواسطته يضمن الشاعر عدم الدخول في غابة الضياع إلى الأبد، وتستمر الأسئلة:
"كيفَ أجمعُ قمحَ روحي
فوقَ سقفِ غمامةٍ؟". (ص 10)
فالشاعر يشعر بالاغتراب وأنه يعيش زمن السراب، تجربة اغتراب الشاعر، هي تجربة نفسية، تأخذ موقف عدم القبول بالواقع، هذه التجربة تولد عادة من "الإحساس أن هوّة فسيحة تفصل عالم الواقع عن عالم المثال الذي يصبو إليه الفرد. وتزداد مشاعر عدم الرضى والرفض وما يرافقها من غضب ونفور ويأس وقلق، وبازدياد الشعور باتساع هذه الهوّة". (4) فالمغترب يعيش في صراع مع مجتمعه، ويرفض الركائز التي يقوم عليها من اتجاهات ومنطلقات وطرق حياة، وبهذا "فقد يغترب الإنسان عن المجتمع كله". (5)
إن الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الوطن العربي، تشعر الإنسان العربي بالعقم والعجز، وإن لا مفر بالعيش في ظل الهزائم، إلا أن أغلبية الشعراء العرب يرفضون كل ذلك، فشعرهم ينبض بالرفض والتمرّد والثورة.
ورأينا كيف يغرق الشاعرفي وحل الاغتراب، ومحاولاته التي لا تفتر في النهوض بنفسه وبوطنه، ليكون نجمة تنير طريقه، وليشع حبا وعلما.
ويعيش الشاعر على أمل أن يسمع من جديد هديل الحمام...وتظل أمه العنوان الرئيس الذي يهدي طريقه الشائكة...
"عرقي على روحي...
وظلِّي يمشي
نحو سراجِ أمِّي
كيفَ يسألُني المكانُ،
هويَّتي؟
عرقي على بوحِ السنابلِ،
يجري...
مثلَ نبوءةٍ...
نقشتْ على وجهِ المدى
شمسَ الجوابْ؟. (ص 12)

والمكان الذي تغير وتبدل بفعل الاحتلال، يسأل الشاعر عن هويته؟ فيجيبه إن عرقه ما زال على السنابل كذكرى لا تمحى.
فالمكان لدى الشاعر  جزء لا غنى عنه من الهوية باعتباره رمز الانتماء إلى الأرض،وهو الأداة التي يستخدمها الشاعر لمراجعة ذاكرة الوطن المسروق. ينتج المكان شعريا من خلال تصورات تاريخية واجتماعية وسياسية وفلسفية، وتأخذنا الصور الشعرية بما تحمله من دلالات إلى تأثير المكان في النفس وارتباطاته النفسية والاجتماعية، فالارتباط بالمكان، والاستنجاد بذاكرته في المنفى يحمي الشاعر من الانزلاق في متاهات الاغتراب القاسي.
يركز الشاعر على كلمات من قبيل القلق، والغياب والوجع والألم والآهات، المتاهات، العذاب، يقول:
"كيفَ تمادى في قلقلي غيابي؟
كيفَ ظلَّتْ آهتي في مقلتي
تتبادلُ الأحزانَ مع وجعي؟
وظلَّ الكذبُ في فمهمْ...
يعذِّبُ نخوتي!
ما جاءَ منْ أحدٍ...
سوى نورِ السراجِ،
يردُّ عن قلبي العتابْ!". (ص 13)
ولكن الريح تسرق سراج أمه، فيقع في حزن لا دواء له:
"أهذي الريحُ تخطفُ من يدي
هذا السراجَ،
سراجَ أمِّي...؟
كيفَ أسندُ همَّ قلبي...
فوقَ أحزانِ المكانِ،
بغيرِ ضوءِ سراجَها
فأرى على عطشي الرِّضاب؟". (ص 14)
ورمز الريح في الشعر العربي الحديث من أشهر الرموز فلا يكاد يخلو ديوان شعري منه، يقول سعد الدين كليب: "إن هذا الرمز قد شاع بشكل لافت للنظر في ذلك الشعر، حيث لا يكاد الدارس يجد شاعراً حديثا واحدا لم يكن له موقف جمالي من الريح بوصفها رمزاً، وبوصفها حقيقة أيضا. ولا غَرو في ذلك، إذ إن الريح من النماذج البدْئية التي تشكل قِوام اللاشعور الجَمْعي للجماعة البشرية. وذلك بوصفها رمزاً للدمار والخراب"(6).
إن الريح في شعر جمال سلسع تتضمن دلالات الاحتلال والبغض والحصار والدمار.

إن الشاعر الفلسطيني يرسم دائما المكان في شعره، لأنه مرتبط بوشائج اجتماعية وسياسية وثقافية، والمكان هو لب الصراع مع الآخر العدو، الذي استولى على المكان، وهجر سكانه الأصلانيين، موظفا قوته العسكرية الجبارة وأساطير دينية وتاريخية، بينما وظف الشاعر الفلسطيني مخزونه الديني والتاريخي والجمالي في قصائده، وبدا شعره وكأنه لوحة ترسم فوق أرض لا تنسى. فهوية الذات الشاعره هي هوية المكان كما إن هوية المكان هي هوية الذات، ويظهر هذا جليا عند احتكاك الذات مع الفضاء الخارجي، إن الذات الشاعرة تبحث عن ممارسة حريتها في المكان شعريا بعد أن عجزت بسبب الاحتلال عن ممارسة حريتها في المكان الواقعي.
يحاول الشاعر عبر قصائده أن يخيط صورا للمدن الفلسطينية ثابر الاحتلال على طمسها، يدخل الشاعر كما يقول غاستون باشلار " الحرية في جسد اللغة ذاته، ولهذا يظهر الشعر كظاهرة حرية". (7)
إن حضور المكان الطاغي له دلالاته، وتشابكه مع ما يعيش فيه وتفاعله معه يشكل هوية الشاعر الشعرية، باعتبار الأرض تضم الأم والأب والبيت القديم، والذكريات الحميمية، فالشاعر يستذكر الأيام الخوالي وألم المنفى، يقول:
"دموعُ البرتقالِ،
يهزُّها شجرُ...  
على أوجاعِ حيفا
في يديها سراجُ أمِّي
كيفَ يذبحُني انتظارُ
لا يزالُ سِراجها...
يشتاقُ قمحَ يديَها...". (ص14- 15)
إذن هو غياب العائلة عن حيفا الجميلة ويافا البرتقال الحزين والحنين الذي لا ينضب لهما.
ويضيف:
"على صفصافَ وقتي
والدخانُ تلاشى من قلقي؟
أيصطادُ الرؤى وهمُ؟
سراجُكِ أمِّي...
خلَّص الخطوَ
من ليلِ الجسورْ!
اتدري أنَّ ظلَّ سراجِها
مثلُ الهديلِ،
يحطُّ
في لغةِ اغترابي
الشمسَ؟
يبدأُ منْ شظايا الروحِ،
هزَّ نخِيلُهُ...وطناً". (ص 19)
فسراج أمه يهزم الليل، وظله كحمامة صوتها الحنون يلملم شتاته، ويقوده صوب الشمس، وتكون النتيجة إن حيفا تظهر بأبهى صورة، يقول:
"فتأتي حيفا من فرحِ الشواطئِ،  
دهشةً...لا...
لا يُفارِقُها الحضورْ
غدي في داخلي...
يمشي على نخلي...
وشرفةُ سجني...
قد ردَّتْ جوابَ عتابِها
فعلى ثرى الإيقاعِ،
غرَّدَ فوقَ عُشِّ سِراجِها
طيرُ الحبورْ". (ص 19- 20)
إن المكان هو "حاضن الوجود الإنساني وشرطه الرئيسي". (8)
ولو نظرنا إلى حياة الإنسان لوجدناها مغامرة في المكان ففيه يولد، وفيه يترك بصماته كما ويترك المكان علاماته في حياة الإنسان، وعند نهاية مغامرته فأنه يرجع إليه، ففي النهاية لا بد للمنفي أن يعود إلى أرضه التي يحبها، ومدينته الساحرة، والاحتلال إلى زوال.

الهوامش
1- انظر أحمد شريبط : الزلزال، تأويل الشخصيات والمكان، مجلة المساءلة، اتحاد الكتاب الجزائريين، ع1، ربيع 1991 ، ص 75.
2- صالح إبراهيم  الفضاء و لغة السرد في روايات عبد الرحمن منيف، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء،  المغرب، ط1، 2003، ص13.
3- جمال سلسع. حيفا في يديها سراجُ أمِّي. حيفا: منشورات مكتبة كل شيء. ط1. 2017م. ص 7.
4- حليم بركات. الاغتراب والثورة في الحياة العربية. بيروت: مجلة مواقف. العدد الخامس. 1969. ص 18.
5- المرجع السابق. ص 18.
6- سعـد الدين كليب: "جمالية الرمز الفني في الشعر الحديث". مجلة الوحدة، ع.82/83، 1991م، ص45. نقلا عن:  فريد أمعضشو. "بلاغة قصيدة الحداثة بالمغرب". موقع رسائل الشعر www.poetryletters.com.
7- غاستون باشلار. جماليات المكان. ترجمة غالب هلسا. بيروت: منشورات المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط2، 1984م، ص 5-6.
8- عبد الحميد المحادين. جدلية الزمان والمكان والإنسان في الرواية الخليجية. بيروت: منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ط1. 2001م. ص 20.