هذا مُغتسل بارد وشرَاب

 

 

محمد علي العوض

على امتداد الحضارة البشرية شغل الماء حيزا كبيرا من أساطير الشعوب واهتماماتها ومعتقداتها المقدسة، وأعتبرت منابع هذه المياه مواطن للآلهة أو للقوى الخفية الخارقة، ومساكن لمخلوقات خارقة كالجن وحوريات البحر ووحوشه مثل"أسبيدوشلون" أو السلحفاة الأفعى؛ المعروف بين البحارة في اليونان القديمة.

في حضارة بلاد الرافدين القديمة شكل الماء ميثولوجيا خاصة، إذ يتصوّر القدماء أنّ المياه الأزليّة كانت النواة الأولى للوجود، وأنّ المحيط كان العنصر البدائي الذي جري خلق الكون منه، وأنّ الكون نفسه نتج عن انفصال الأرض عن السماء بالقوة من قبل مجموعة ثالثة من الآلهة.. وفي ملحمة التكوين البابلية "الإينوما ايليش" تستعيد الإلهة "أنانا" حياتها بشربها رشفة من ماء الحياة بعد أن أوشكت على الموت، ويظهر الماء في ثنايا هذه الأسطورة متحكمًا في الموت والحياة؛ فالإلهة "أبسو" هي المياه العذبة التي تعتبر مصدر الشفاء والطب وتدل على البعث والحياة، بينما ثمثل الإلهة "تيامات" المياه المالحة التي تشي بالموت والأمراض.

ويكاد كل نهر في الحضارات القديمة يحمل قدسية وأسطورة الإله، كنهر الغانج في الهند، والنيل في مصر القديمة إله الخير والنماء والخصب، وكانوا يتقربون إليه بالقرابين والطقوس كي يستمر جريان نهر النيل ومن هذه الطقوس

 

أنّهم يقدمون إلى النيل قربانا يسمى "عروس النيل" وهي عبارة عن جارية بكر تزين بالحلى والثياب ثم تلقى في النيل تزلفا إليه.

وللماء في المعتقد الإسلامي موقع متميز، يلخصه القرآن الكريم في قوله عز وجل: "وجعلنا من الماء كل شيء حي" كما يحمل الماء دلالات عدة أبرزها دلالة التطهير والتخصيب؛ فمن ناحية البعد التطهيري الماء هو القوة المطهرة لأدران الروح والجسد، كما في الوضوء الذي يحط الخطايا والذنوب، فضلا عن الغسل بموجباته كافة، والرقية الشرعيّة التي يشكل فيها الماء وسيطا روحيًا؛ لما للقرآن من خصائص تتجلى في قدرته العلاجية والشفائية لكثير من الأمراض، فعند قراءة القرآن الكريم على إناء به ماء وبصوت مرتفع قليلاً فإنّ هذا الماء يتأثر بالآيات القرآنية التي تحوي بيانات عدة بإمكانها أن تتعامل مع التيارات المائية والأمواج الحرارية. أمّا من ناحية البعد التخصيبي: فالماء "مذكّر" يلقح الأرض المؤنثة ويفجر – كما يقولون - الخصوبة الكامنة في الرحم الكوني: الأرض المنبت الأول للإنسان حين تشكل بأمر ربه من ثنائية الماء والتراب.. يقول تعالى: "وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج" وسيمياء الماء هنا تتلمسها ببصرك حين يسقي الماء بكل وسائله الأرض الهامدة؛ أي القاحلة اليابسة لا نبات فيها فتهتز الأرض أي تتحرك عبر عملية الإنبات بالنبات.. ويقول أهل الذكر: لما كان النبات نابتًا فيها ومتصلا بها، كان اهتزازه كأنّه اهتزازها، وهنا مجاز مرسل" حيث أطلق الكل وأراد الجزء.. واهتزاز الأرض هنا علة سببية لخروج النباتات التي ربت أي زادت وارتفعت.

ويشكل الماء ثيمة أساسية في حياة الأنبياء ومعجزاتهم فالطوفان أو الماء كان معجزة سيدنا نوح، وناقة صالح التي كانت سببا في هلاك ثمود كان لها يوم مخصص للشرب لا ينازعها فيه أحد "قال هذه ناقة لَهَا شِرْب وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ" أي لا تشربوا من شربها شيئا، ولا هي تشرب في يومكم مما لكم شيئا.

وعندما فرغ الماء من السيدة هاجر وابنها إسماعيل بعد أن تركها سيدنا إبراهيم بواد غير ذي زرعٍ عند بيت الله المحرم طفقت السيدة هاجر تبحث عن الماء بين الصفا والمروة إلا أنه لم تجده وعندما أعياها البحث قفلت راجعة إلى ولدها إسماعيل وظنها أنه قد مات من شدة العطش "لكنها وجدته يخبط الأرض بقدميه وقد نبع من بينهما الماء، فشربت وسقت ابنها ثم أخذت تحبس الماء بيديها وتزمّه حتى لا ينساح في الأرض لتختزنه بقربها خوفاً من أن يتسرب في الرمال من غير جدوى ومن هنا أطلق على البئر اسم زمزم". وفي قصة يوسف كان الماء وسيطا يعبر عن الموت والتغييب حين ألقاه إخوته في غيابة الجب – البئر- لولا أن التقطه بعض السيّارة. والماء في قصة سيدنا موسى له دلالتان مزدوجتان؛ النجاة/ الموت؛ ففي الدلالة الأولى -النجاة- كان الماء وسيطًا منقذا وحافظا لحياة موسى ثلاث مرات، المرة الأولى حين ألقته أمّه في اليم امتثالا لأمر ربها، والمرة الثانية حين سقى لابنتي شعيب، والثالثة عندما انفلق البحر ومرّ خلاله سيدنا موسى ومن معه، وتحقق الدلالة الأولى للبطل في قصة سيدنا موسى يعني تحقق الدلالة الثانية وهي الموت للعامل المعيق أو المضاد وهو فرعون وجنوده الذين أغرقهم سبحانه وتعالي في البحر

وكذلك يلعب الماء كمكان فضائي دورا رئيسًا في قصة سيدنا يونس عليه السلام فالفلك والحوت كلاهما دال وينزاح على البحر بكل دلالاته.  والمخاض عندما ألجأ مريم البتول إلى جذع النخلة وقالت: يا ليتني مت قبل هذا الأمر ناداها ربها "أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا" أي جدول ماء جار تشرب منه.

ويذكر تعالى في كتابه العزيز سيدنا أيوب - عليه السلام - وما ابتلاه به من ضر في جسده وماله وولده، حتى لم يبق من جسده موضع سليم سوى قلبه ولم يبق له من حال الدنيا شيء يستعين به على مرضه، صبر أيوب وزوجته على المرض سنين طويلة ولكن لما اشتد به الحال نادى ربه: (أنّي مسني الضر وأنت أرحم الراحمين) وقال: ربِّ إنّي مسني الشيطان بنصب وعذاب، قيل: بنصب في بدني وعذاب في مالي وولدي. فاستجاب له أرحم الراحمين وأمره أن يقوم من مقامه وأن يركض الأرض برجله، ففعل، فأنبع الله عينا وأمره أن يغتسل منها فأذهب جميع ما كان في بدنه من الأذى ثم أمره فضرب الأرض في مكان آخر فأنبع له عينا أخرى وأمره أن يشرب منها فأذهبت ما كان في باطنه من السوء وتكاملت العافية ظاهرا وباطنا ولهذا قال تعالى: "اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب".