مع الله في كتابه: (الميزان في القرآن الكريم)


عبد الجواد خفاجي – ناقد وروائي مصري


إننا بحاجة إلى إعادة قراءة الآيات الثلاث من سورة الرحمن: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ. أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ. وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) .. (الرحمن ـ 7، 8، 9).
ولعل بلاغة القرآن لا ترمي إلى توظيف واحد لثلاثة موازين متتالية لتعطي نفس المدلول، فيما يُـعَـدُّ تكرارا بلا هدف أو غرض بلاغي، وجلَّ القرآن عن ذلك، وقد أكدت دراسات كثيرة على نفي قضية التكرار في القرآن، وتؤكد تلك الدراسات على أن التكرار الظاهري يأخذ بالقارئ المتدبر للآيات إلى معانٍ مختلفة في كل ما يظنه تكراراً. والأمر يتوزع بين ما هو (معنوي) و(بياني) قبل إن يكون (بديعيًا)، يحرص على صياغة مموسقة تبحث عن السجع بعيدا عن المعنى والتصوير البلاغي والرمزي.
ولنتساءل بداية: هل نحن أمام استخدام حقيقي أم مجازي للغة، أو بالمعنى: هل استخدام مفردة "الميزان" استخداما حقيقيا في الآيات الثلاث، أم أنه استخدام مجازي، أم متنوع بين الحقيقي والمجازي؟ وهل نحن أمام ميزان واحد أم ثلاثة موازين؟ هل ثمة اختلاف بينها؟ ما مدلول "الميزان" في كل آية؟ هل نحن أمام مدلول واحد أم ثلاث مدلولات؟.
والأمر يدعونا بداية إلى تأمل "الميزان" لغويا، ونحن نعرف أن "الميزان" اسم آلة من "وَزَنَ" يعرف من خلالها الإنسان مقدار الأثقال والأوزان أو الكتلة. ومن خلال هذا التعريف اللغوي البسيط ننظر إلى الميزان بوصفه ما نتحرى به عن العدل وليس هو العدل نفسه. ويمكن أن يُستخدم "الميزان" مجازاً للتعبير عن آلات أخرى تُستخدم لتقدير كميات أخرى غير الكتلة، مثل: ميزان الحرارة ونعني الترمومتر.
من جهة ثانية قد يبعد بنا استخدام "الميزان" لغويا بعيدا عن اسم الآلة ليشمل معانٍ كثيرة تنضوي تحت الاستخدام المجازي للميزان، وتسير بنا في اتجاه القواعد المنظِّمة مثلما نقول: القواعد المنظَّمة لإيقاع الشعر، ونعني: علم العَـروض، الذي يقودنا باتجاه الميزان العروضي أو الإيقاعي. وهناك المِيزان الصرفيّ في العلوم اللغوية، ويُقصد به الصيغة التي اصطلح عليها علماء الصّرْف في اللُّغة العربيّة لضبط أوزان الكلمات وصيغها بحسب حروفها الأصليّة، سواء أكانت الكلمة ثلاثيّة أم رباعيّة الأصول، ورُمز لهذا الميزان بحروف كلمة (فعل).
وقد يٌستخدم "الميزان" بمعنى الموزون، وهو ما نستبينه في الآية الكريمة "فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ"(القارعة : 5 ـ 11 ) والمراد: موزوناته أو أعماله الموزونة. وقال ثعلب: إِنما أَرادَ مَنْ ثَقُلَ وَزْنُه أَو خَفّ وَزْنُه، فوضع الاسم الذي هو الميزان موضع المصدر. (انظر لسان العرب ـ مادة:  وزن)  وقد يُستخدم الميزان بمعنى الضابط العقلي، مثل قولنا: "كلام الرجل ميزان عقله".  وقد يُستخدم "الميزان" بمعنى الانتصاف في قولنا: "قام ميزان النهار واستقام" ونعني: انتصف.  وهكذا فإن معاني الميزان متسعة جدا، وتحوى استخدامات مجازية كثيرة ومتعددة.

وبالعودة إلى الآيات الكريمات الثلاث نجد أننا أمام ثلاث "موازين" مختلفة وليس ميزانًا واحدًا. فالميزان الأول هو ميزان كوني يخبرنا عن الاتزان الكوني الفيزيقي، والاثنان الآخران يختصان بالبشر بدليل الخطاب للإنسان الممثَّل بضميره في "تطغوا، وتخسروا". غير أن الميزان فيما يختص بقضايا الإنسان مختلف في )أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ) عنه في (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) لأن الطغيان في الميزان هو نفسه الخسران في الميزان، وليس من الجائز النظر إلى أن المعنى يتكرر على التوالي بين الآيتين دون اختلاف. غير أن الاستخدام في الآية الأولى والثانية مجازيا، بينما هو في الآية الثالثة حقيقيا.. وإلى تفصيل ذلك:
الميزان الأول:
 ومع الآية الأولى من الآيات الثلاث، (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ) نلاحظ أن الميزان هنا كونيـًا.. يتعلق برفع السماء، وهي قضية خلق كونية. الآية تشير بمدلولها إلى الكون كله وما وضعه الله فيه، أي ثبته فيه من قوانين ضابطة ومنضمة لحركة أجرامه السماوية، وضامنة لانسجامه وعدم طغيان جزء على جزء فيه، والقضية السياقية التي يرتبط بها استخدام "الميزان" في هذه الآية هي قضية الاتزان الكوني، فالكون كله متزن أو موزون وفق آليات وضوابط وقوانين تحفظ انسجامه وانتظامه واتساقه. والاستخدام هنا مجازي وكأن هذه القوانين الضابطة والمنظمة هي ميزان الكون، أو هي التي تحفظ استقامته واعتداله وانسجام أجزائه وتوافقها واتفاقها في منظومة كونية متكاملة متعاضدة تحفظ الكون كله على أساس منسجم لا يطغي فيه جزء على جزء، ولا تختلف فيه القوانين الفيزيائية من جزء إلى جزء، بحيث يبقى الكون متزنا وكأنه موزون بدقة، ومتزن وفق حكمة إلهية كبري تشمل الكون كله تضمن بقاءه متزناً، وهذا ما تؤكده أيضاً أجهزة القياس العلمية الفيزيائية، وما يؤكده علماء الفلك والفيزياء من أن الكون متسق فيزيائيا وقوانينه الفيزيائية واحدة في جميع أجزائه، ولا يطغي فيه جزء على جزء.
الميزان الثاني:
أما في الآية الثانية (ألا تطغوا في الميزان) فنحن أمام ما يشير إليه الميزان من قيم العدل. ومن ثم فإن الاستخدام هنا مجازيا رمزيا يستعير آلة العدل للعدل، في قضية سياقية تخص تعامل الإنسان مع غيره من البشر، أو مع الطبيعة من حوله وما تحويه من كائنات وجمادات، هي قضية العدل أو الاعتدال الذي لا يجنب الإنسان الطغيان. ولعل الاستخدام هنا رمزي، فكثيرا ما وضع قضاة المحاكم خلفهم صورة الميزان، كرمز للعدالة المنشودة، والطغيان هو التجاوز عن القيم التي تؤكد العدالة وتقيمها في الأرض، والجور عليها، بعد أن بين الله الحق برسالاته وكتبه السماوية، وبما خلقه في الإنسان من فطرة نقية، وبما أهداه من عقل يتبين به هذه القيم. وثمة ضوابط إذن مثمثلة في العقل والمنطق والقياس والشرائع والقوانين المنظمة والضابطة، والضمائر والفطرة السليمة، وغيرها، وكلها بمثابة الموازين التي يستطيع الإنسان بها أن يتبين قيم العدل التي تحول بينه وبين الطغيان.
وقد يكون الميزان هنا بمعنى المتزن وهي الأرض المتزنة أي المنضبطة وفق قوانين عامة تحفظ اتزانها البيئي، فهي تدور بحساب مقنن مقدر، لا يتغير ولا يضطرب ، بل لها منازل تسلكها في الصيف والشتاء، فيترتب على ذلك اختلاف الليل والنهار طولا وقصرا ومن ثمَّ فليس على الإنسان إلا المحافظة على الموزون بألا يطغي في هذه البيئة، وقد خُلق لأداء رسالة تستوجب الاتزان والانضباط، وخاصة أنه يعيش في بيئة متزنة وعليه أن يحافظ على اتزانها، وفي القرآن آيات تشير إلى هذا الاتزان والاعتدال والاستقامة : "وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم " .. (النحل ـ 16 ) فها هي الأرض متزنة لا تميد في حركتها، وكذلك: (وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ).. (الحجرـ 19)
فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمكنه أن يطغى في هذه الأرض؛ ليفسد توازنها البيئي، وقد كثُر الاهتمام بشؤون البيئة، وأدرك العلماء أهمية التوازن البيئي وأثره على حياة الكائنات من نبات وحيوان وإنسان، وبشكل خاص بعد الكميات الضخمة من الملوثات والتي أفرزتها حضارة القرن العشرين. فقبل عدة عقود لم يكن هنالك تلوث يُذكر، ولكن في السنوات الماضية زاد عدد المصانع في العالم وزاد عدد وسائل النقل وهذه تنتج كميات ضخمة من المواد الملوثة والتي تسبب أمراضاً خطيرة أهمها السرطان. هذا التلوث أثر بشكل كبير على الكائنات المائية كالأسماك، وكذلك على الحيوانات وكذلك على النباتات.
 الميزان الثالث:
في الآية الثالثة (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ) نحن أمام استخدام حقيقي للميزان، نحن أمام آلة وزن، يمكن أن يُخْسِرها الإنسان بأن يفسد عملها، أو معناها، أو قيمها أو فعاليتها أو أجزاءها وهو يقدر بها الأشياء ليضلل بها الآخرين.  ولعل هذا المعنى هو ما ذهب إليه كثير من المفسرين، والقضية السياقية التي يرتبط بها الميزان هي المعاملات التي بين الإنسان وغيره من الناس .. يقول ابن كثير: (وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان)  أي لا تبخسوا الوزن بل زنوا بالحق والقسط، كما قال تعالى (وزنوا بالقسطاس المستقيم). وقال الطبري: قَالَ ابْن زَيْد , فِي قَوْله: (وَأَقِيمُوا الْوَزْن بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَان ) قَالَ: نَقَصَهُ , إِذَا نَقَصَهُ فَقَدْ خَسَّرَ تَخْسِيرًا. وَقَوْله (وَأَقِيمُوا الْوَزْن بِالْقِسْطِ ) يَقُول: وَأَقِيمُوا لِسَانَ الْمِيزَان بِالْعَدْلِ . وَقَوْله: ( وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَان ): وَلا تَنْقُصُوا الْوَزْن إِذَا وَزَنْتُمْ لِلنَّاسِ وَتَظْلِمُوهُمْ.
على أن هذا الاستخلاصات الثلاثة لمدلول كلمة "الميزان"  في الآيات الثلاث لا يمنع اتصالها؛ فمن ضمن عدم الطغيان في العدل أن يكون الإنسان متوازنا مع نفسه، محافظا على الاتزان أو التوازن أو الموزون بمعنى: المعتدل، وأن يتأسى به، حتى يكون ممتثلا للقاعدة الكونية العامة ولا يشذ عنها، وحتى لا تفسد البيئة من حوله. ومن ضمن هذا التوازن هو العدل بين الناس فيجب على الإنسان إذا عرضت عليه قضية ما أن يعدل وألا يرجح ما ليس براجح، ومن ضمن عدم الطغيان في العدل أن يحافظ الإنسان على حقوق الآخرين إذا كالهم أو وزنهم.
وهكذا كنا أمام ثلاثة موازين وليس ميزانا واحداً في الآيات الثلاث التي وردت فيها مفردة "الميزان"، حيث أشارت الآية الأولى إلى القضية الكونية الكبرى التي تحوى الأرض والإنسان وبقية المخلوقات لتؤكد أن الانضباط والاتزان إنما هي قوانين كونية وسنة كونية أو بالمعنى: الناموس الذي يعم الكون كله، فليس أقل من أن تنضووا تحته، وهذا القانون الإلهي أيها البشر في حياتكم وتعاملاتكم مع بعضكم أو في تعاملكم مع البيئة والطبيعة والكائنات الأخرى. ولهذا تطرقت الآيات إلى القضيتين الأخريين كما أسلفنا في التوضيح.

 

تعليق عبر الفيس بوك