الخالق وحصر التأثير في الله:

تأملات فلسفية في الأسماء الحُسنى والصفات العُليا (6)


محمد بن رضا اللواتي - مسقط


اسم "الخالق" شديد اللصوق بمقام وجوب الوجود، لدرجة أن من المحققين من عده أشد الخصوصيات الذاتية في الألوهية(1)، حتى وكأنه عنوانها. وقد أوجدت هذه الصفة معمعة فكرية حولها نمهد لها بالأسطر التالية:
صرح الكتاب المجيد في العديد من الآيات أن مقام وجوب الوجود مقام الخالقية، بالنحو الذي لا يوجد "شيء" إلا وهو مخلوق له. قال "قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار" ، وقال "هل من خالق غير الله؟". وتجاوز النص القرآني هذا المستوى ليبلغ أفقا أرفع، فصرح أن الأفعال الصادرة عن الفواعل الاختيارية هي، أيضا، أفعاله تعالى، فقال: "أرأيتم ما تحرثون؟ أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون؟".
هذا الأفق، أعني أفق تعلق فاعليته تعالى بأفعال الفواعل الاختيارية، أنتج حراكا ثقافيا معرفيا عميقا في الفكر الديني، رسا إلى ثلاثة رؤى تحاول حل الأسئلة الكُبرى التي نشأت من حصر التأثير في مقام وجوب الوجود، وهي:
1.    إذا كان الله هو خالق كل شيء بما فيها أفعال البشر أيضا، فكيف يمكن تصور حرية الإنسان في إختيار مصيره؟
2.    وإذا لم تكن للإنسان إرادة فيما يفعل، فما معنى بعث الأنبياء وإرسال التشريعات التي ترغب في الثواب وتوعد بالعقاب؟
3.    ثم، كيف يمكن القول بأن كل فعل في أنحاء الوجود فهو فعله؟ أليس معناه أن الأفعال القبيحة والمشينة، بما فيها جرائم قتل الأبرياء وإستباحة الأعراض والاستيلاء على الحقوق، ستغدو كلها أفعاله؟ لا شك أن الولايات المتحدة وإسرائيل ومن لف لفيفهما، سيعملون حتما على اعتناق هذا النحو من التفكير، بل وتكريسه بين المضطهدين من البشر لتتبرأ ساحتهم من جرائمهم وتُلقى على كاهل الألوهية!
4.    وما الذي ينبغي فعله في آيات الكتاب العزيز الذي تثبت لغيره تعالى تأثيرا في أنحاء هذا الوجود وتقر نظام الأسباب والمسببات؟ ففي قوله تعالى : "الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا" الرياح هي التي أثارت السحب، ويقول "وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات" فأقر بأن الثمرات أخرجها الله بالماء. وقال "حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا" فالرسل هنا هي التي تتوفى الإنسان، وقال "أني أخلق لكم من الطين" فأسند الخلق إلى المسيح بإذن الله، وقال "فالمدبرات أمرا" فأسند دور التدبير إلى الملائكة، وقال "فتبارك الله أحسن الخالقين" فأقر ثمة من هو غيره، خالقا، إلا أنه هو الأحسن دونهم.
كيف يمكن فهم هذه الآيات مع تلك التي حصرت الخالقية فيه وأرجعت كل التأثيرات إلى فعله؟ ألا يتعرض مبدأ "التوحيد في الأفعال" وأنه "لا مؤثر في الوجود غيره" للاهتزاز والزحزحة؟
الرؤى الفكرية الثلاثة بذلت مجهودا فائقا لحل الأزمة والإجابة عن الأسئلة المشار إليها آنفا.
غير أن بعض تلك الرؤى شذت عن مسار المنطق العقلي الصارم، وهي تحاول حل الأزمة، فاعتنقت تصورات لا يقرها التأمل الفلسفي من جهة، وتدفعها آيات الكتاب المجيد من جهة أخرى، نأتي إلى بيانها في الأسطر التالية.
ولكن قبل ذلك، قد يجدر في هذا التمهيد أن نشير إلى أن "الخالق" من الأسماء الحُسنى التي ينسبها الفكر بمقام الألوهية من خلال مشاهدة آثاره المتمثلة في الخلق والايجاد. في حين هنالك مجموعة من الأسماء الإلهية والصفات الربانية ما يستطيع التأمل العقلي بلوغها بمجرد تعمقه في طبيعة مقام وجوب الوجود الذي يقتضي جملة من الصفات التي لا بد وأن يكون متصفا بها، كالحياة والعلم والقدرة وأمثالها.
والمحققون في هذا المجال يقولون بأن الأسماء التي نتوصل إليها بمشاهدة آثارها في هذا العالم، تنتهي إلى أسماء أخرى يقتضيها مقام وجوب الوجود، فإسم "الخالق" الذي لا تتصف به الألوهية ما لم يكن هنالك ثمة "خلق"، إلا أنه في آخر المآل يرجع وينطوي ويستقر في إسم "القادر" الذي تقتضيه الألوهية بغض النظر عن مشاهدة أثر له، هو بدوره يرجع وينطوي ويستقر في إسم "الحي"(2). وهكذا فمآل جميع الأسماء العودة والاستقرار والانتهاء إلى "الاسم الأعظم" الذي لن يكون إلا المقام الإلهي المستجمع لجميع صفات الجلال والاكرام، والاسم الدال على ذلك الاحتواء التام لكل كمال هو "لفظ الجلالة".
أشرنا إلى أن ثمة ثلاثة رؤى قدمت نشاطا فكريا ملحوظا لحل الإشكالية، أولها الرؤية التي جعلت مصب إهتمامها الكامل الآيات التي تجعل من الخالقية صفة حصرية لمقام وجوب الوجود، مثل "هل من خالق غير الله؟"، فلا مؤثر في الوجود إلا هو. وبناء عليه، ألغت هذه الرؤية أية فاعلية لأي كائن آخر، وأرجعت كل الأفعال إلى فعل الله، فوهج الشمس، ليس له صلة بالشمس، وإنما هي عادة الله أن يوجده بعد إيجاد الشمس، وهكذا الرطوبة التي تحدث بعد جريان الماء، لا صلة لها بالماء، وإنما هو الله يوجدها بعد إيجاده للماء، وأيضا النار، لا أثر لها إطلاقا، فالاحراق فعله، بل يتعدى الأمر من الجمادات إلى البشر، فكل فعل هو فاعله!
هذه الرؤية، والتي يعد أبي حامد الغزالي(3)، والفخر الرازي(4) من أروع منظريها، إن كانت قد تمكنت من حصر التأثير في مقام وجوب الوجود، إلا أنها وبالمقابل، ألغت نظام السببية المشهود وجدانا في أرجاء هذا العالم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، لطخت الساحة الالهية المقدسة بأفعال البشر بما فيها القتل وسفك دماء الأبرياء، وهتك الأعراض وسلب الحقوق! ليس هذا فحسب، بل يُصبح "الجبر" أمر لا مناص من قبوله، فلا إرادة ولا حُرية للإنسان إطلاقا أمام هيمنة الفعل الإلهي على فعله. إضف إلى هذا، أزمة خلو التشريعات الدينية من أية منطق تستند عليه، فطالما لا حُرية للإنسان ولا إرادة، فما معنى الترغيب بالجنة والترهيب من النار؟
النتائج المروعة المستندة على القول بأن أفعال البشر بما فيها البشعة منها هي أفعال الله، إنتبه لها مفكروا هذه الرؤية، فابتكروا مبدأ "الكسب" لتخفيف حدة لوازم هذه الرؤية، وإيجاد لون من التوازن بين الفعل الإلهي وبين أفعال البشر، موجزه أن الفعل فعل الله، ولكن ومع هذا فإن للإنسان فيه "كسب"!
يبدو، أن النظرية ظلت عصية على الفهم، نظرا لتهافت التوضيحات التي قدمها منظروا هذا المبدأ. فلقد أورد "السبحاني" أقوال المحقق "التفتازاني" و"القاضي الباقلاني" و"أبو حامد الغزالي" وقارنها ببعضها وبغيرها كذلك، فوجدها تتعارض مع بعضها ولا تنتهي إلى محصلة ثابتة واضحة(5). النتيجة ذاتها إنتهى إليها باحث ضليع، أعني "حنفي" الذي خلص تحقيقه في مبدأ "الكسب" إلى كونه "بلا مضمون"! كتب يقول: "لفظة الكسب قد لا تعني شيئا على الاطلاق، إنما أريد بها التمويه على الجمهور أنها تفيد شيئا غير الجبر، وهي في الحقيقة لا تفيد إلا الجبر. الكسب إسم بلا مسمى، لفظ بلا معنى، كلمة تشير إلى لا شيء، وتكشف عن مجرد الرغبة في إثبات الجبر بطريقة ملتوية"(6)
هذه نقاط الضعف في ذلك النشاط المعرفي في فهم صفة "الخالقية" وحصرها في الذات الإلهية منح مبررا ثقافيا تحول إلى عقدي لاحقا، للحكومات الجائرة التي وجدت في تبني هذه الأطروحة فكاك لها من تحمل مسؤولياتها تجاه ما ترتكبه من جور . وأنتجت أيضا، عدة إرهاصات فكرية أخرى تُضاف على ما مر بيانها سابقا، تمثلت في إلغاء مقدرة التأمل العقلي على تشخيص الحُسن والقُبح باستقلال عن التشريع، وإفقاد الغرض والغاية من أفعال الله.
فحول الحُسن والقُبح الذاتيين، وأن الصدق حَسن في ذاته، والكذب قبيح في ذاته، والاحسان والفضيلة ومعونة الضعيف أفعال تحوي قيمتها وحُسنها في أعماقها، ونقيضها من الصفات تحوي قيمتها وقُبحها في ذاتها، وأن العقل يستطيع إدراك ذلك الحسن فيها، كما ويُدرك قبح نقيضها، هذه المسألة تُصبح فاقدة للاعتراف وغير مقبولة بالمرة وفق التنظير الفكر المار بيانه. فلقد صرح منظروا هذه الرؤية  بأن الحُسن والقُبح لا يمكن إدراكهما إلا بمعونة الشرع والدين فحسب، فالدين يقرر ما الحسن وما القبيح، فلا ينبغي أن يُقال بأن الله تصدر عنه أفعال حكيمة، بل ينبغي أن يُقال بأن فعله تعالى فهو عين الحكمة.
ذلك، لأننا عندما نقول بأن ما هو حكيم وحسن وصواب فالله يفعله، معناه بأننا أدركنا الفعل الحكيم والحسن والصواب مستقلا عما صدر عن الله، وبتنا نقيس فعله على تلك المستقلات الفكرية، ولكن وفق هذه الرؤية، فهذا غير ممكن ولا مُتاح، إذ لا مستقل عن فعله، ولا أداة مستقلة بالامكان قياس فعله بها، لذا ينبغي القول بأن كل ما يفعله الله فهو "حكيم" و "حسن" و "صواب"، وينبغي لزوم "السُنة" فحسب وهجر الفكر العقلي بالمرة.
وفيما يتعلق بمسألة الغاية من أفعال الله، فإن هذه الرؤية أنكرته، بمعنى أنه لا يمكن أن تكون هنالك سلسلة من المصالح تبتني عليها أفعال الله، فهذا معناه أن ثمة أسابا تتحكم في تأثير الله، وأفعاله سوف تصبح تابعة، وهذا أمر غير ممكن.
 يمكننا أن نستنتج كيف كان تقبل القاعدة العريضة للناس لهذه الرؤية، فالعواطف الجياشة للدين ستجد فيها الأطروحة التي ينبغي اعتناقها، من هُنا نجد، أن هذه الرؤية الفكرية تمكنت من كسب لقب "أهل الحديث" بنجاح، وتم طرد التفكير العقلي ليظل شريدا برهة من الزمن حتى تلقفته رؤى ثقافية وأعادت له دوره في حدود ما سمحت به الظروف.
نعود للحديث عن صفة "الخالقية" وعلاقتها بحرية الانسان، وتأثير الفواعل الأخرى في أنحاء هذا العالم، بتأمل رؤى ثقافية أخرى نشطت لتقديم تصورات مختلفة عن التي استعرضناها في هذه الحلقة.
.....................
المصادر:
1)    المصباح، محمد تقي: معارف القرآن ج1ص
2)    الطباطبائي، محمد حسين: رسالة في الأسماء، ضمن رسائل توحيدية ص43
3)    جيهامي، جيرار: مفهوم السببية بين المتكلمين والفلاسفة ص21
4)    الطوسي، نصير الدين: تلخيص المحصل ص325
5)    السبحاني، جعفر: الالهيات على ضوء الكتاب والسنة ج1ص620
6)    حنفي، حسن: من العقيدة إلى الثورة ج3ص117
7)    شمس الدين، محمد جعفر: دراسات في العقيدة الاسلامية ص17
8)    مطهري، مرتضى: العدل الإلهي ص22 تعريب: محمد عبدالمنعم الخاقاني

 

تعليق عبر الفيس بوك