حتى إذا ولد المواطن المعجزة..!

د. سيف المعمري

قد يظنُّ البعضُ أن عَصر المعجزات انتهى، ولا سبيل إلا استعارة الكلمة في سياقات مختلفة للإشارة إلى الاستثنائي من الأفعال، والتصرفات، التي تكون لها غرابتها حين تظهر في محيط لا يؤمن بها، ولا يؤمن بقيمة الأثر الذي تتركه، قد وضعها الكاتب أنيس منصور يوما عنوانا لمقال له بعنوان "حتى إذا ولد الطفل المعجزة قتلناه"، وأستعير نفس العنوان، ولكن في سياق مختلف للحديث عن المواطن المعجزة.

حيث يعدُّ المواطن معجزة في بلد ويعد نقمة في بلد آخر، ولا تحتاج الأوطان اليوم من معجزات إلا مواطنين، حين تثق فيهم وقدراتهم وإخلاصهم يرفعونها إلى سقف السماء، وإن ارتطمت به لا يتركونها تسقط وتتحكم، أو تصبح معاقة تمشي على عكاز أو اثنين أو تجلس على كرسي تحتاج إلى من يدفعها لكي تنجز الضروري مما تحتاج، لكنهم يعملون على رفع سقف السماء أكثر وأكثر، لكي يواصلوا الارتفاع به إلى نقطة يتمنون أن تزداد علوا وشموخا، هؤلاء المواطنون بكل المقاييس يعدون معجزة، وإذا وجودا في بلد يجب أن لا يكونوا الأول والأخير في كل شيء، لا يوجد قانون إلا من أجل زيادة تمكينهم، ولا توجد سياسة إلا من أجل مساعدتهم على إظهار طاقاتهم الاستثنائية، ولا يوجد باب يقفل في وجههم يودون أن يروا القابع خلفه للحوار معه حول ما يجعل الخير يتدفق أكثر في بلدهم، ولا يفاضل عليهم أحد إلا منهم، ولديه من الإعجاز ما لم يصلوا إليه بالشواهد والأمثال.

هؤلاء المواطنون لا أقول ثروتنا؛ فالثروات ناضبة، ذاهبة، وآتٍ غيرها، لكنهم معجزتنا، والمعجزات باقية، لا يمكن أن يجادل فيها أحد، وهذا ما يؤكد عليه كل حدث يمر به بلدنا، أنَّ المواطن العماني هو معجزة عُمان الباقية التي تحفظ عُمان من كل الأنواء؛ سواء كانت سياسية أو مناخية أو اقتصادية، أو دينية؛ حيث يقفون ثابتين لا يمكن أن تقتلعهم الأنواء؛ لأنهم مزروعون منذ قرون عديدة في هذه التربة، وكلما تقدم الزمان بهم ازدادوا رسوخا، يتغير الزمان حولهم ولا يتغير حبهم لأرضهم وتضحيتهم من أجلها بأرواحهم وما يملكون، ما الذي نخاف منه ونحن نملك هذه القوة؟ ما الذي ننتظره أيها السادة ومتخذي القرار لكي ننطلق بهؤلاء الذين يعجزون من حولهم من الشعوب إلى آفاق رحبة؟ ما الذي ننتظره حتى نغير من السياسات والتشريعات التي تعيق انطلاقتهم، هل ننتظر أنواء من خلفها أنواء من خلف أنواء لكي نزداد يقينا، أولم نؤمن بكل ما شَاهدنا ورأينا طوال هذه السنوات؟ أومَا نؤمن بعد كل ما عرفنا من تاريخ هؤلاء وآبائهم وأجدادهم؟ أما آن لنا أن نؤمن أننا نملك معجزة هي المواطن العماني، لا البترول أو الغاز أو غيره من المعادن الثمينة؟!

"مكونو" ربما بُعث لكي يُساعدنا على أن نصل إلى اليقين بأننا نملك مواطنا معجزة.. ما الذي حدث في مكونو؟! تلاشت حدود وزارة الإعلام حيث عمل هؤلاء المواطنون على توجيه بعضهم بعضا بسرعة، وعلى تفنيد كل ما من شأنه أن يربك الناس أثناء الأزمة، وعلى نقل كل التفاصيل بمصداقية في وقتها. وتلاشت حدود وزارة المالية؛ حيث حثَّ المواطنون بعضهم البعض على البدء في وضع أموالهم وممتلكاتهم في خدمة وطنهم، تصدَّت لذلك بطريقة منظمة، عشرات الفرق التطوعية الخيرية، التي تتوزع في مختلف مناطق عُمان. تلاشت حدود وزارة البلديات الإقليمية والبيئة والقوى العاملة؛ حيث تنادى مواطنو البلد للذهاب إلى المناطق المتضرِّرة في اليوم التالي. وتلاشت حدود وزارة التنمية الاجتماعية؛ حيث تبرَّع المواطنون بكثير من الأشياء الضرورية لحملها للمناطق المتضررة، وفتح كثير من الملاك بنياتهم وأسكنوها الذين تم إجلاؤهم، وعمل أولئك المنتمون لجهات مدنية أو عسكرية طوال الليل والنهار في ظروف صعبة جدًّا، قدَّموا خلالها أرواحهم من أجل بقية مواطنيهم؛ فثبتوا حين تحطمت بعض الأشياء المادية هنا وهنا، جرفت مياه الأعصاء أجزاء من الشوارع لكنها لم تجرف المواطن، واقتلعت رياح الإعصار كثيرًا من الأشجار ولكن لم تنجح في اقتلاع المواطن، الذي كان يقف بثبات لا تحركه هذه الأنواء، وانهمرت من كل الجبال والشعاب والأخوار المياه، لكن لم تتدفق دمعة خوف واحدة لا من المواطنين ولا من أولئك الذين ارتحلوا إلى هناك لمساعدة الناس لمواجهة تأثيرات الأنواء معهم.. إن المواطنين الذين يقفون في وجه الأعاصير بثبات قادرون على أن يتحدُّوا كل الأزمات، قادرون على أن يصنعوا المعجزات التي تلاشتْ في ظل الخراب الذي يزحف على المنطقة العربية من كل مكان، إننا بحاجة لبقعة ضوء تعبِّر عن الإرادة في ظل الظلام الذي يرخي سدوله من حولنا.

ما الذي يمكن أن نقدمه لمثل هؤلاء المواطنين الذين يقفون صفًّا كالبنيان المرصوص لحماية وطنهم من الأنواء والتقلبات؟ هذا سؤال يتطلب التفكير عميقا في أبجديات التنمية في ظل الأنواء الاقتصادية: هل يمكن أن نقود بهم تحولات اقتصادية كبيرة ونمكِّنهم في الأرض الوطنية لكي يزرعوا فيها مشاريع استثنائية يستفيد منها بلدهم ومواطنوهم؟ بعد كل أنواء علينا أن نضع نُصُبا تذكاريا في منطقة الأنواء "للمواطن" لكن ليس المواطن المجهول، فنحن نعرف معجزات مواطنينا مع هذه الأنواء، ونعرف أنهم أقوى مما نتوقع، وأخلص مما نظن، وأكثر سخاء مما نعتقد.