الموافقات بين لغة العرب والقرآن

محمد عبد العظيم العجمي – مصر


نسوق في بداية هذه المقالة تساؤلات، وربما صارت إحدى مسلمات تراثنا العربي التليد، واشتغل الدرس الأكاديمي بها ردحا من الزمان وانقسمت النخبة المؤدلجة حولها؛ فالقوميون تعصبوا للعروبة تعصبًا شوفينيًا، والإسلامويين ذهبوا في هذا المقام مذاهب شتى.. لنعود إلى التساؤلات ونطرحها على بساط النقاش بموضوعية لا يأتيها الهوى من بين يديها ولا تزيغ بها القومية من خلفها، ولا يعصب عينيها عمه تاريخي مقيت ولنسأل أنفسنا:
هل كان لأمة العرب تاريخ قبل مجيء الإسلام ونزول القرآن؟ وهل كانوا أمة بالمعنى الشامل (السياسى والاجتماعي) ؟ أم أن الإسلام هو الذي صنع لهم الأمة وأخرجهم إلى دواوين التاريخ، وأعلى ذكرهم بين الأمم، فجعل لهم دولة وأنشأ لهم حضارة، ثم نتج عن كل هذا ما ورثوه من علم وأدب وثقافة وفكر وعلوم؟
الغرض من التساؤلات هنا ليس التأصيل للأمة كمفهوم لغوي واصطلاحي؛ ولكن الغرض هو تناول بعض من التأثيرات الثقافية والأدبية المتبادلة بين لغة العرب والقرآن وما نتج عن وجود القرآن فى أدبياتهم من تغير أو تثبت لكثير من المفاهيم والحكم والأمثال والأشعار، فقد جاء القرآن موافقا فى كثير من المواضع للغة وحكمة العرب، كما أخذ الشعر العربي بعد الإسلام من أدبيات القرآن ومعانيه متأثرا به.
لقد كان العرب قبل الإسلام أمة بالمعنى المبسط للكلمة وهو اجتماع لجماعة من الناس على أساس عرقي (العرب) وجغرافي (الجزيرة العربية واليمن والشام) ، ولغوي (اللغة العربية) ، ولم تكن لهم ثقافة أو علوم ذات طبيعة مستقلة أومتجذرة ومتوارثة تميزهم عن ما عداهم من الأمم الأخرى كالتى تحيط بهم (فارس والروم)، إنما كانت هناك فقط مجموعة من الحكم والأمثال والأشعار تتناقلها الأجيال، ومجموعة من العادات والأخلاق (منها السيئ والحسن)، ولم تكن العرب أمة (قارئة كاتبة) حتى تسجل ما تورثه لأجيالها إنما كانت أمة (أمية) كما وصفها القرآن، تعتمد على الحفظ والذاكرة، وتورث أخلاقها وأمثالها وأحكامها عبر الأجيال عن طريق الحفظ، حتى كان منهم من يحفظ القصيدة المطولة من سماعها مرة واحدة، ولم يكن هذا بغريب لديهم، حيث لم يعرف القراءة والكتابة منهم إلا نفر قليل معظمهم من أهل الكتاب الذين كانوا يساكنونهم الجزيرة أو ما حولها كالشام واليمن ..
فلما جاء الإسلام واستنقذهم من (الجاهلية) التي كانت تسمهم آنذاك وجعل لهم (أمة) بالمعنى المتكامل من الاجتماع على شكل الدولة ونظام الحكم والحدود والكيان السياسي والجغرافي .. الخ ، انتقل العرب كذلك من مرحلة الحكم والأمثال والأشعار إلى مرحلة الثقافة بالمعنى العريض، وانتقلوا من مرحلة الذاكرة إلى مرحلة التدوين ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة القرآن وجمعه من بعده الصحابة فى (المصحف) المعروف ، ثم تلا ذلك تدوين الأحاديث والعلوم والترجمات من اللغات الأخرى حتى أثرت الثقافة العربية ودونت للتاريخ هذا الكم الهائل من العلوم والفنون .
ومن مرحلة التدوين والكتابة التي أرساها القرآن وما نتج عنها من علوم أولية (اللغة ، الحديث ، التفسير ، العقيدة ، والفقه ... ) بدأت مرحلة التميز الثقافي للعرب وتحولت من أمة جاهلية كما وصفها القرآن فى أكثر من موضع(حمية الجاهلية ـ ظن الجاهلية ـ تبرج الجاهلية) ، وكما كانت تصف هي نفسها أحيانا فى حروبها واختلافها ، كقول مهلهل :
حمية شعب جاهلي وعزة كليبية                     أعيا الرجال خضوعها
تقتل من وتر أعز نفوسها عليها                      بأيد ما تكاد تطيعها
شواجر أرماح تقطع بينهم                       شواجر أرحام ملوم قطوعها
ثم لبثت أن تحولت هذه الحمية وهذه المثالب الجاهلية بفضل القرآن والإسلام وما نتج عنهما من أدب وتربية وثقافة ، إلى مكارم ومحامد لم يعرف التاريخ مثلها ، واستنطق الإسلام هذه الأرواح التي كانت مغيبة فى خضم هذا التخلف حتى فاضت بالحب والخير والآداب والخصال الحميدة ، فصارت تقدم أخوة الإسلام على العصبية القبلية، وتضرب المثل بالعفو بدلا من الانتقام ، والإيثار بدلا من الأثرة والكرم بدلا من الشح ، وتعقد على شواجر الأرحام فتحفظها بعد أن كانت تقطعها ، وقد ذم القرآن هذا الخلق فيهم حيث قال " فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم " محمد.
لقد جاء القرآن بأخلاق وحكم وأمثال أقرب مايكون إلى ما عهده العرب من كرائم الأخلاق ومحامدها وما استخلصوه مما جمعت تجارب حياتهم وتوارثتها أجيالهم ، فنقض بنيان ما كان منها على غير هدى وما أسس على شفا جرف هار، ومكن لما دعا منها إلى المكرمات والحكمة وذلك بلغة هي البيان والذكر والتفصيل والإجمال والإحاطة بكلام لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وكان هذا مما استمال قلوب المخبتين منهم غير المعاندين الذين عرفوا الحق قبله ، فلما سمعوه كأنهم رأوا الحق الذي عرفوه رأي العين وسمعوه كما سمعوا مثله من قبل وكما أوعزت لهم فطرتهم النقية فأذعنوا وآمنوا ..
ومن الموافقات التى جرت بين لغة العرب والقرآن كثير نذكر منها على سبيل المثال هذا المعنى الفطري الذي يجمع بين جمال المظهر والجوهر، ونقاء الظاهر والباطن قوله تعالى: "يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير" الأعراف . والمعنى هنا أن الله قد جعل اللباس سترا لبني آدم(عوراتهم) وقد جعل من الشرع ما هو أفضل من ذلك وأرقى وأنقى وهو التقوى التى يجمل بها هيئة المرء وتصح بها صورته الظاهرة والباطنة وهذا من فضل الله على خلقه .. وقد وافق الشعر العربي هذا المعنى فى أكثر من موضع ، فقال السموأل :
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه           فكل رداء يرتديه جميل
وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها         فليس إلى حسن الثناء سبيل
وقال آخر :
إذا المرء لم يلبس ثيابا من التقى               تجرد عريانا وإن كان كاسيا
وخير ثياب المرء طاعة ربه                   ولا خير فيمن كان لله عاصيا
وقال ثالث :
وإني بحمد الله لا ثوب غادر              لبست ولا من خزية أتقنع
كذلك قول الحق تبارك وتعالى : " ولا ينبئك مثل خبير" فاطر. ، والمعنى هنا : أنه لا يوضح لك بينة أمر من الأمور أو حال قوم من الأقوام مثل ما يوضح لك الخبير بأمرهم الملازم لهم برؤيتة، والمحيط بهم علما ، وهو الحق تبارك وتعالى الذي يعلم دخائلهم وظواهرهم ، والمعنى العام أنك لا تسأل عن أمر من الأمور إلا خبيرا بدقائقه وأسراره حتى إذا ما أنبأك عنه كان علمه موثقا وكان خبره نافعا .. وقد ذكرت العرب قريب من هذا المعني فقالت : " على الخبير سقطت" ، ومنه قول السيدة عائشة رضي الله عنها للصحابي" أبي موسى الأشعري " حين جاء يسألها عما يوجب الغسل ، فقالت له " على الخبير سقطت" أي أنها خير من يعلمه عن هذه المسألة وأفضل من يفتيه فيها .
كذلك ذكر القرآن آية القصاص فى القتل ، ثم عقب عليها بقوله " ولكم فى القصاص حياة ياأولي الألباب لعلكم تتقون" البقرة ، أي أنه جعل من القصاص ردعا لمن تسول له نفسه بالقتل حيث علم أنه لا محالة مقتول بالقصاص بعد ذلك، فيكون هذا من ردع النفوس وإلجامها لجام الخوف من القتل فتقف عند حد الحق والشرع ، وحين تقف عند هذا الحد فلا تتعد بالقتل فإن في ذلك حفظ لحياة الكل بحياة الفرد، كذلك أن حكم القصاص بعد القتل الأول يشفي صدور أولياء المقتول فتحجم نفوسهم عن الإقدام عن الانتقام ، وبذلك أيضا يكون فيها حفظ الحياة ، وقدقالت العرب معنى قريبا من هذا المعنى وهو " القتل أنفى للقتل " .
وفي قول القرآن فى سورة الدخان : " ذق إنك أنت العزيز الكريم " الدخان ، هذا المعنى فيه نوع من التوبيخ والتقريع لهذا الذي تجبر وتكبر وأعرض عن آيات الله وصد عنها ، وبارز آيات الله باللغو والاستكبار فكان جزاؤه أن كان في النار مهانا يذوق العذاب ، ثم يقال له أنت الذي كنت تدعي العزة والكرامة بالإعراض عن أيات الله وهذا جزاؤك .. ومن هذا قول عنترة :
فشققت بالرمح الأصم ثيابه               ليس الكريم على القنا بمحرم
وقد ورد في سورة الصافات هذا التشبيه لشجرة الزقوم " طلعها كأنه رؤوس الشياطين" الصافات . وقد اعترض عليه بعض المعاندين من المستشرقين وأذنابهم " هل يمكن أن يشبه بشيئ غير معلوم " وهو رؤوس الشياطين، ومن المعلوم أن شكل الشياطين هو شكل قبيح والجن عامة، وإذا كان هذا التشبيه بشيء غير معلوم فهو زيادة فى البشاعة والتنفير من هذه الشجرة والتحذير منها، وما ينتظر المقدمون عليها من الأثمين من ألوان العذاب ، ولامرئ القيس معنى مقارب لهذا المعنى يقول فيه :
أيقتلني والمشرفي مضاجعي           ومسنونة زرق كأنياب أغوال
والمعلوم أن الغول عند العرب هو من الأشياء الخرافية التي لا وجود لها ، وقد تستخدم هذا المعنى فى الترويع والتخويف من الشيء المشبه .
كذلك لفظة السرّ التي وردت في قوله " ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا" البقرة. ، والسر هنا بمعنى النكاح ، وفيها ينهي القرآن عن خطبة المرأة التي لا تزال في مرحلة العدة ، ولكن من الممكن التعريض في ذلك بالكلام الذي يفهم منه الخطبة بدون تصريح ، وقد وردت كلمة السر هنا على أحد التفسيرات بمعنى النكاح، كما وردت في قول امرؤ القيس :
ألا زعمت بسباسة أنى كبرت                 وألا  يحسن السر أمثالي
وقد ورد قوله تعالى فى سورة الفرقان " ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا" الفرقان . ، والمعني أن موقف العرض على الله للظلمة من الصعوبة والحسرة حتى يعض الكافر المعرض بنان الندم على ما فات وفرط في جنب الله ، وما قصر فى حق نفسه بأن أعرض عن دعوةالرسول صلى الله عليه وسلم وشاقه ، واتبع سبيل أخلائه من شياطين الإنس والجن فكان هذا حاله لما رأى ما ينتظره من العذاب والهوان ، وقد ورد هذا المعنى فى قول : مهلهل بن ربيعة يصف انتقامه لكليب :
قتلوا كليبا وقالوا لا تثب                  كلا ورب البيت ذي الإحرام
حتى يعض الشيخ بعد حمية               جزعا مما يرى على الإبهام
ومن ذلك نرى أن القرآن جاء بلسان عربي مبين ، كما قال تعالى " قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون" فصلت ، وإن كان وافق لغة العرب في كثير من المواضع إلا أنه يظل يعلو ولا يعلى عليه ، ولا تنتهي عجائبه ولا تفنى غرائبه ولا يخلق على كثرة الرد ، وإنما أردنا أن نقول : أنه لولا القرآن ولغته لما كان لهذا الشعر العربي وهذه الأمثال والحكم رواج حتى يومنا هذا ، ولكانت عامية الشعوب قد سحقتها سحقا ، وسحقت معها (لغة العرب) الأصيلة ، فضلا عما سطر بعد ذلك من أداب وثقافات ومؤلفات عم خيرها الدنيا والبلاد والعباد ، وانتقل العرب من هذه الأمة الأمية الجاهلية إلى أمة عالمة ولجت إلى التاريخ من أوثق أبوابه وخلد ذكرها إلى أن تقوم الساعة حيث جعلت " خير أمة أخرجت للناس " .
وللحديث بقية ...... إن شاء الله

تعليق عبر الفيس بوك