عُمان.. مدرسة إدارة الأزمات

 

سيف المعمري

صفحة مُشرقة جديدة تضاف إلى سجل الإنجازات الحضارية التي سطَّرتها النهضة العُمانية بقيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ومتعه بالصحة والعافية- فبعد إنجازات متتالية في مجالات السياسة الخارجية، والتنمية الاجتماعية والاقتصادية الشاملة التي تنعم بها السلطنة، وبعد نجاعة الدبلوماسية العُمانية في التعاطي مع الأزمات البشرية المتعددة، والتي تعصف بالعلاقات الإقليمية والدولية، بل كان للسلطنة الدور البارز في المساهمة الإيجابية في حل الكثير من تلك القضايا المعقدة جدًّا؛ فأعطت السلطنة للعالم أنموذجًا فريدًا لإدارة الأزمات السياسية المتعددة، وحافظت على علاقاتها مع جميع الأطراف، وغلبت منهج الوسطية والتعايش ومبدأ السلام ميزانا لحل جميع الأزمات.

أما على المستوى الداخلي، فقد سخرت السلطنة كل الإمكانيات المادية والبشرية لبناء الإنسان العُماني؛ فهو الهدف الأسمى من التنمية وغايتها، بل هو قطب الرَّحى الذي تدور حوله كل أنواع التنمية، ولقد جنت تلك الإدارة الحكيمة ما زرعت، فقد أثبت المواطن العُماني للعالم بإنه الأقدر على مجابهة التحديات وإدارة أزماته الداخلية، فقد شهدت السلطنة خلال العقد الماضي عددا من الأنواء المناخية، والتي كانت كفيلة لتبرهن للعالم الهمم العالية للعُمانيين، ومقدرتهم على مجابهتها رغم صعوبتها.

فبعد الأنواء المناخية التي تعرضت لها السلطنة المتتالية كـ"جونو" و"فيت" و"شابالا"، جاء الإعصار المداري "مكونو" ليبرهن على يقظة العُمانيين، وجاهزية وكفاءة الكوادر البشرية العُمانية في الأجهزة المدنية والعسكرية والقطاعات الأهلية بمؤسساتها وأفرادها؛ للتعامل مع تلك الأنواء، وتمثلت تلك الجاهزية والكفاءة البشرية فيما تنبأت به وبدقة عالية جدًّا الهيئة العامة للطيران المدني -ممثلة بالمديرية العامة للأرصاد الجوية والمركز الوطني للإنذار المبكر من المخاطر المتعددة حول تحرك الإعصار المداري "مكونو" لحظة بلحظة وتأثراته المباشرة وغير المباشرة على محافظتي ظفار والوسطى، حتى انتهاء تلك التأثيرات بسلام، والتي لولا -فضل الله ولطفه بعباده وبهذه الأرض الطيبة- ودقة التنبؤات التي سبقت "مكونو" لخلفت أضرارا بشرية ومادية غير مسبوقة، وهو درس عملي للتنبؤ بالأزمات ووضع خطط لإدارتها.

فيما كان للجنة الوطنية للدفاع المدني "عُمان مستعدة"، والمنظومة الوطنية لإدارة الحالات الطارئة، وكافة تشكيلات الأجهزة العسكرية والأمنية والدفاع المدني والإسعاف دور ملموس من حيث الاستعداد قبل دخول الحالة المدارية "مكونو" إلى محافظتي ظفار والوسطى، وأثناء وصولها وبدء تأثيراتها المباشرة وغير المباشرة، وبعد انتهاء الحالة المدارية، وما قامت به تلك الأجهزة وتكامل أدوارها، درس عملي آخر على القدرة العالية لكوادرها البشرية والتي سخرتها من أجل حماية الأرواح البشرية كهدف أسمى، ثم التقليل من الخسائر المادية بأقل قدر ممكن حتى وإن كانت جاءت نتيجة لظروف طبيعية لا يمكن وقفها، ولكن استطاعت تلك الأجهزة وبكوادرها البواسل أن تجنب السلطنة أٌقل الخسائر من جراء الحالة المدارية التي صنفت كإعصار من الدرجة 2.

كما كان لوسائل الإعلام المحلية دور محوري في إيصال المعلومة الصادقة والدقيقة جدًّا لكل المواطنين والمقيمين بسائر محافظات السلطنة عامة ولمحافظتي ظفار والوسطى، خاصة كونهما المتأثرتين بـ"مكونو"، فقد رافقت التغطيات المباشرة لعدة أيام قبل وأثناء وبعد مرور الإعصار في جميع الوسائل الإذاعية والتليفزيونية والمواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي الموثوقة والصحف -ولله الحمد- شكَّلت تلك التغطية خطَّ الدفاع الأول لتعاطي أبناء المجتمع مع مجريات وتحركات الحالة المدارية، وجنبت السلطنة أقل الخسائر البشرية، وهو درس مهني للأجهزة الإعلامية الوطنية لتشكيل الوعي المجتمعي الإيجابي والتعاون مع أجهزة الدولة للخروج من الأزمات بأقل الخسائر الممكنة.

وقد كان لوعي أبناء محافظتي ظفار والوسطى وتعاطيهم بجدية مع كل التحذيرات التي كانت تبثها الجهات المختصة عبر مختلف وسائل الاعلام المحلية والمواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي، وعدم الالتفات لبعض المواقع والأخبار غير الموضوعية، الدور البارز الذي كلل أعمال جميع الجهات المختصة بالسلطنة في إدارة تلك الأزمة المدارية بكفاءة عالية جدًّا.

كما كان لهبة جميع أبناء السلطنة من مسندم شمالا وحتى ظفار جنوبا، ومن رأس الحد شرقا حتى البريمي غربا، والذين تهافتوا على المشاركة في الأعمال التطوعية لإعادة الحياة إلى سابق عهدها في محافظتي ظفار والوسطى، وتشكيل لجان بالولايات لجمع التبرعات النقدية والعينية لمساعدة المتضررين من تأثيرات الحالة المدارية "مكونو"؛ فقد أصبحت تلك الجهود محل فخر واعتزاز وتقدير من داخل السلطنة وخارجها، ودرسا عمليا ناصع البياض في الحب والانسجام الذي ينعم به المجتمع العُماني.

وقد حظيت الحالة المدارية "مكونو" -التي عبرت السلطنة بمتابعة مستمرة من قبل الأشقاء والأصدقاء من مختلف دول العالم- وقد ارتفعت أصوات المصلين في تلك الدول بالدعوات الصادقة بأن يجنب الله عُمان وأهلها كل مكروه، وهو درس عملي لثمرة غرس الخير والسلام الذي غرسه حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ومتَّعه بالصحة والعافية- بسياسته الحكيمة في إدارته لعلاقات السلطنة الأخوية بالأشقاء والأصدقاء.

أمَا وقد انتهت الحالة المدارية "مكونو" وقد بدأت الجهات المختصة بتقييم الأضرار الناتجة عنها، فإنه من الإنصاف أن نثمِّن عاليا ما قامت به كل الجهات المختصة وأفراد المجتمع، وأن نقيم الأضرار المادية التي تركتها تلك الحالة المدارية، وأن تعيد تلك الجهات المختصة حساباتها وسرعة استجابتها في إعادة التخطيط والتنفيذ المتقن للمشاريع الحيوية والبنى الأساسية، ولتبقى عُمان على الدوام مدرسة لإدارة الأزمات.

فبوركت الأيادي المخلصة التي تبني عُمان بصمت...،

Saif5900@gmail.com