العُمانيون والملاحم الوطنية

حمد بن سالم العلوي

عندما زار عُمان من غير ترحيب، إعصار "جونو" عام 2007م، فكانت الزيارة الأقسى في التاريخ العُماني الحديث، لم تكن شبكة التواصل الاجتماعي قد تشكلت بعد، وكانت الأخبار تنقل عبر وكالات الأنباء العالمية، ورغم هول ما حدث، اعتمدت عُمان على ذاتها، وذلك في التصدي للإعصار المُدمر، وبعد ذلك في مُعالجة النتائج، وبعض المعالجات كانت جذرية كطريق وادي عدي العامرات مثلاً، واعتماد عُمان على نفسها وشعبها في ملحمة كبرى، تشكلت تلقائيا ودون طلب من الحكومة، وما زاد المشاعر الوطنية الجياشة قوة ورغبة في التحدي، رفض القيادة العُمانية الحكيمة المُساعدات الخارجية، فأعطى للناس ناموساً وكبرياء في التعود على الاعتماد على الذات، وذلك بخلاف بعض شعوب الأرض، حيث تسترزق بعض الدول من الكوارث الطبيعية، باستدرار عطف دول العالم وطلب المساعدة، وهكذا أمر يناسب الدول الطارئة على التاريخ، التي تعتقد أن شراء ولاءات النَّاس قد يأتي بعلبة زيت أو علبة حليب، فيحشدون فرق التصوير التلفزيوني والتصوير الضوئي، فيعملون ملحمة ورقية وبهرجة إعلامية كاذبة.

وبعد ذلك أتى زائر آخر من نفس الطريق، تحت مسمى جديد "فيت" فزار وخفف الوطء، وهذا الزائر الثالث المدعو "مكونو" يأتي اليوم، ولكنه باتجاه ظفار هذه المرة، ربما قصد المباغتة والمخادعة، لم تبعد الشقة على الناس، فحول الصحراء إلى بحيرات من المياه الراكدة أمام الناس، وكأنه يُريد منعهم من التواصل، فلم يفلح فشقت طرق بديلة، وفي نفس الوقت أعطى فكرة عن نوع هندسة الطرق الجديدة، إذن لم ينجح هذا الزائر الثقيل في التصدي للهمم العُمانية العالية، ولكنه نجح في إشعال وسائل التواصل الاجتماعي، فغرد هواة التغريد كل بما تكنه نفسه وطبعها، فغرد الخيرون بالدعاء إلى الله أن يلطف بأهل عُمان واليمن، ودعوه تعالى أن يجعله صيّب خير وبركة على الجميع، فتقبل الله عزّ وجلّ دعاءهم فلطف وأوعظ لمن كان له لب عقل، وأما المرضى من المُغردين فغردوا معبرين بما تكنه أنفسهم من أسقام تثقل بواطنهم، وهناك من غرد مشيداً بالتعاضد والتعاون العُماني، وبحسن إدارتهم للأزمة، ولفت انتباههم روعة التنظيم والتنسيق المشترك بين الأجهزة العسكرية والأمنية والمدنية، مشيدين بروعة القيادة العُمانية وروعة الشعب العُماني الأبي، واعدين بجعل أمثلتهم في التدريب من هذه الملاحم العُمانية.

لقد ضجت عُمان من أقصاها إلى أقصاها بالدعاء والضراعة إلى الله، أن يجنب عُمان هول هذا الإعصار المهول، فبمجرد أن لامس الإعصار اليابسة حتى انكسرت حدته، فتحول من الدرجة الثانية إلى الدرجة الأولى، ثم تحول إلى منخفض جوي، وحمد الناس ربهم أن استجاب دعاءهم ولطف بإخوانهم الذين كانوا في عين العاصفة، وأن عاد الإعصار برداً وسلاماً على عُمان وأهلها وجوارها، وقد سجلت وفيات قليلة رغم هول الحدث، فكان مُعظمها نتيجة سوء تقدير وتصرف من الناس، وبإهمال الحذر والاستعجال في الخروج إلى الأودية والشعاب، ولو لا الاستعجال وعدم إعطاء المخاطر حقها، لربما كانت الوفيات "صفر" في حين عواصف كإعصار "مكونو" تسبب فواجع في بلدان أخرى من العالم، رغم تعرضها لحوادث مُماثلة متكررة بأكثر من التي تتعرض لها عُمان.

إنَّ الذي ذكرت أعلاه كان سرداً لثلاثة حوادث من الأعاصير الكبيرة، والتي تكررت زيارتها لسواحل عُمان، ولكن العبرة ليست في الأعاصير التي دأبت على ضرب السواحل العُمانية وجوارها، كونها بلدان مطلة على بحر العرب، وهو جزء من المحيط الهندي، فالمطلع على سجلات التاريخ العُماني البعيد، سيجد تلك الحوادث مسجلة في كتب التاريخ، وبعضها لها مُسميات لدى العُمانيين كضربة "الأحيْمر" مثلاً، وما سمي بطوفان صحار أو طوفان المصنعة، إذن لا شيء يستحق أن يتوقف المرء معه كونه أمر غريب وطارئ، وإن ظروف وحوادث حرَّضت عليه، وإن ذكر الله للناس بالحوادث حتى لا يغفلون ذكر الخالق، وإن النعمة ورغد العيش قد يجعلان الناس في غفلة عن طاعة الله عز وجل، مصداقاً لقوله تعالى:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}العنكبوت (2) إذن امتحان المؤمن وارد في أية لحظة، أما من غضب الله عليه وتمدى في طغيانه وضلالته فيقول عنه الله في محكم كتابه العزيز:{قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً} مريم (75).

إذن العبرة التي يجب الوقوف عندها، أننا كعُمانيين أعتدنا ألا نفرد عضلاتنا إعلامياً، بأننا أهل وحدة وطنية متميزة، وأهل بأس شديد، وأننا تستدعينا وطنيتنا عند الضرورة واللازم الوطني، فلا نحتاج إلى خطاب من قائد البلاد ليدعونا إلى التوحد، ونبذ التفرقة عندما يتعرض الوطن العُماني إلى مكروه، لأن الفرقة والتفرقة أصلاً غير موجودة في القاموس العُماني الرصين، فيكفي أن تعلن وسائل الإعلام المحلية عن وجود حالة طارئة، ولأن العُمانيين في تعاضدهم وتراحمهم لا يحتاجون إلى دعوة في ذلك، فالمشاعر الوطنية الجياشة التي تسري في دمائهم لا تحتاج إلى حث وتحريض من أحد، فالكل يعرف الواجب الوطني المقدس، فتجده يستجيب من تلقاء نفسه، والكلام الذي صرح به أحد المسؤولين في التنمية الاجتماعية من أنه لا طلبات للمساعدة رغم تقطع السبل بالناس، وإنما الطلبات ترد إليهم بالرغبة في تقديم المساعدة.

إذن رصّ الصفوف العُمانية أمام الحوادث الطبيعية، يعطي قراءة واضحة عن حال العُمانيين، إذا ما دعا الداعي إلى ظرف طارئ آخر – لا سمح الله – فإنهم سيكونون يدا واحدة وقلبا واحدا، فمثل هذا الاصطفاف الملحمي الكبير، رسالة ربانية وامتحان حي للإنسان العُماني، حتى لا ينسه رغد العيش، والرفاهية الحديثة، الروح الوطنية الوثابة، والرسالة الربانية الأخرى، هي لمرضى القلوب والنفوس، أن الشعب الذي يتصدى ولا يتحدى بالطبع للأعاصير، هو شعب لا يُمكن الفت في عضده، مهما سولت النفوس الباغية ببغيها، أنها تستطيع التأثير في عقيدة العُماني، بالبغي عليه وعلى أرضه فحتماً ستخيب، وقد سبق وأن جادلني مجادل في اصطلاح "رغد العيش" وهو محق في جداله لأنّه يحرص على مشاهدة وسائل إعلام الكذب والدجل الطارئ، ولم يقف على وسائل الإعلام العالمية، ليرى كيف يجوع الناس ويذلوا ويُهانوا في مخيمات الشتات، وكيف يشردوا سباحة في البحار والمُحيطات، فلا تذكرهم وسائل الإعلام الكاذب، إلا إمعاناً في الكذب والتشويه، ووقتها سيتمنى هذا المجادل العيش بحرية وأمان، تحت شجرة غاف في الصحراء.

حفظ الله عُمان الأبية، وسلطانها القائد الفذ الحكيم، وشعبها الوفي الكريم، من أعاصير الدهر، وعواصف البحار، إنه سميع مجيب الدعاء.