بُرهانُ الصِدِيقِين:

تأملات فلسفية في الأسماء الحسنى والصفات العليا(4)



محمد بن رضا اللواتي


عندما كان الغرب يسابق الزمن في سعي محموم لأجل "أنسنة الآلة"، كان جمع من المفكرين والفلاسفة قد أبدوا تخوفا كبيرا من أن ينتهي هذا السباق إلى "مكننة الإنسان" نفسه(1)!
والفارق بين هذين، أنه و"بأنسنة الآلة" ستتمكن هذه الأخيرة، وبالأجهزة الحساسة، قراءة تعابير الوجه ولغة الجسد لتكتشف حزن البشري أو فرحه، خوفه أو بغضه، بل وجوعه وعطشه، في حين أنه و"بمكننة الإنسان" ستزول فيه تلك "المشاعر" التي زُودت الآلة بأجهزة لقراءتها! حينها، لن تكون الآلة قد "تأنسنت" لغياب موضوعها، ولكن الآنسان يكون فعلا قد "تمكنن"!
كم ستكون صفحة هذا العالم مخيفة عندما سيفقد الإنسان مشاعره فعلا! ولكن، ألم يفقدها بعد؟
فماذا تفعل إذن الولايات المتحدة في بلاد "العرب"؟
وما معنى أن تتنزه آلات دمار بعض "العرب" باحثة عن "حياة" تحت ركام المنازل والمستشفيات والمدارس والمزارع اليمنية، لكي تنتزعها، سواء أكانت تلك حياة طفلة، أم صبي أفقدتهما "المكننة" ساقا أو عينا؟
صَداً "للعدمية العربية" التي يُراد زرعها في أرجاء البلدان الاسلامية، نلتزم بإعادة التذكير بالمشاريع التي نجحت نجاحا منقطع النظير في تأسيس البرهنة المنطقية على الواقعية الإلهية، وإنها فوق الشك.
فلقد سبق وأن إستعرضنا في الحلقة المارة "برهان واجب الوجود" كما دشنه كل من الحكيم "الفاربي" و"ابن سينا"، اللذان سعيا إلى تقديم رؤية عقلية تضاهي رؤية العرفاء للعالم، وهي الرؤية التي تعبر عنها كلمة "بك عرفتك" و "يا من دل على ذاته بذاته".
ولكن "صدر الدين الشيرازي"، الذي وصفه "أبو ريان" قائلا:  "كبير المتألهين وشيخ الحكماء صاحب الموسوعة الفلسفية الكبرى المسماة الأسفار الأربعة"(2)، والتي كانت الأقدار قد قيضت له أن يقدم – وفق الشافعي - "دورة جديدة واستشراف لأفق ابداعي بعد مرور ألف سنة من تراكم التقاليد الفكرية في البيئة الاسلامية، وفي زمن الوهن الفكري والجمود النسبي"(3)، وجد أن البرهان قد إنطلق من التأمل الفلسفي في "مفهوم الوجود" وليس حقيقته. قال: "وهذا مسلك أقرب المسالك إلى منهج الصديقيين وليس بذلك كما زعم لأن هناك يكون النظر إلى حقيقة الوجود، وهاهنا يكون النظر في مفهوم الوجود"(4).
ومعنى ذلك أننا في حاجة إلى إثبات أن ذلك المفهوم الذي أنطلق منه الحكيمان، له "ما بإزاء"!
فمفهوم الوجود له حقيقة واقعية في الخارج لا بد من البرهنة عليه أولا حتى يستقيم ذلك التأمل على قاعدة صلبة.
ذلك، لأنه من الممكن أن يكون مفهوم الوجود قد انتزعه الذهن من ملاحظة الماهيات في الخارج دون أن يكون له "ما بإزاء" كما يقول به الفلاسفة "المشاؤون".
وإذا بالرجل يعكف على صناعة "أصالة الوجود" لتكون – بحسب "هاني"- "وثبة معرفية كبرى لفلسفة وجودية حلت بها أحجية الوجود حلا لم يتمكن من كان قبله أن يحلها بمن فيهم "هيدغر" في روائعه الزمانية، و "سارتر" اللذان، لم يقدما شيئا جديدا في مضمار الوجود، بخلاف الشيرازي"(5).
ففي الوقت الذي رأت الفلسفة ما قبل "الشيرازي" العالم مجمعا هائلا من الكثرات على هيئة ماهيات متنوعة، لا يربط بينها أمر، ألغى فيلسوفنا هذه الكثرة وأقام مكانها الوحدة. فكل شيء وجود، وغير الوجود ليس إلا العدم الذي لا خبر لدينا عنه.
لقد كانت الفلسفة قبله لا ترى الوجود إلا مفهوما ذهنيا تم انتزاعه من مشاهدة الماهيات العديدة، إنه لا يعبر عن حقيقة خارجية بإزاءه إطلاقا. فنحن عندما نتأمل أية حقيقة خارجية، تتكون في أذهاننا عنها فكرتان، أحدهما تُعبر عن تلك "الماهية"، والأخرى عن "وجودها".
كان الشعب العماني قبل ليلة البارحة، عن بكرة أبيه، يتأمل بجهد ميداني جبار، وبتضرع وخشوع إلى الجبار، مرور عين الحالة المدارية "ميكونو" فوق "ظفار" بأقل خسائر، فلقد كان في ذهنه مفهوم عن "الاعصار"، ومفهوم عن "وجوده"، فالمفهوم الأول لم يكن يحوي الثاني في طياته ما لم نحمل على الأول –الإعصار- الثاني – الوجود - فنقول "الإعصار موجود"!
هذان المفهومان، لا يمكنهما معا أن يعبرا عن متن الواقع الخارجي، إذ لا بد أن يكون أحدهما "أصيلا"، والآخر تابع له يتحقق في ظله، لأنهما كل منهما غير الآخر، ونشوء مفهومان كل واحد منهما غير الآخر، بإزاء حقيقة خارجية واحدة، لا يمكنهما معا أن يُعبرا عنه.
يشبه هذا لو نظرنا إلى لوحة بيضاء وقد رسمت عليه أشكالا متنوعة من مثلث ومربع ومستطيل ومكعب، ثم تساءلنا:
-    هل أن ما نراه هو عبارة عن عدد من الأشكال البيضاء...؟
-    أم إن ما نراه هو البياض الذي ظهر على هيئة أشكال بمختلف الأحجام؟
الاجابة الأولى تعني "أصالة الماهية"، إنها تعني أنك غير ملتفت إلى البياض الذي ملأء اللوحة والأشكال، في حين أن التفاتك مصبه الأشكال فحسب. بينما الاجابة الأخرى تعني "أصالة الوجود". يعني أنك ملتفت تماما إلى أن الاشكال ليست في الحقيقة إلا البياض نفسه. إنها متقومة به.
قدم "الشيرازي" مجموعة متينة من البراهين تدل دلالة واضحة على "أصالة الوجود"، ومن أدقها ذلك البرهان الذي ينطلق متسائلا عن مصدر "بروز آثار الأشياء" ماذا ينبغي أن يكون؟
العدم؟ يمقت العقل قبول ذلك فليس العدم إلا اللاتحقق والبطلان التام. فماذا بقي بعد العدم غير الوجود؟  
فإذا كان "الوجود" سبب إنبثاق آثار الأشياء، بمعنى أن عليها أن تكون "موجودة" حتى تكون لها آثار، فكيف بالوجود نفسه لا يكون ذا حقيقة واقعية في حين أن سائر الأشياء قد تحققت به؟
ولو صببنا هذا البرهان على هيئة "قياس منطقي استثنائي" لكان كالتالي:
أ.    لو لم يكن الوجود أصيلا، لامتنع ظهور أثر من آثار الماهية ولوازمها.
ب.    ولكن الآثار ظاهرة.
    إذن: الوجود أصيل ومتحقق(6).
فإذا كان الوجود حقيقة أصيلة، فمن أين تنشأ الكثرة؟
لم يلغي "الشيرازي" الكثرات ليرتمي في "المثالية المنكرة للواقع"، فيكون مذهبه ناكر للواقعيات من حوله، كلا، وإنما أعاد تفسيرها بأطوار الوجود ومراتبه. الوجود واحد بالوحدة الحقيقية، ولكن له شؤون وأطوار ذاتية، فمن مراتبه الكمال الذي يكون فوق ما لا يتناهى بما لا يتناهى مدة وعدة وشدة، ومن مراتبه الانحدار الشديد إلى أبعد درجات النزول حيث عالم الصيرورة والحركة. ومع هذا تبقى حقيقة الوجود واحدة وإن تعددت أطواره، على غرار حقيقة النور ووقوع الدرجات فيه.
"في ظل هذا المنهج، يتم تفسير حقيقة الوجود بصورة متميزة، بحيث تُحفظ وحدته رغم تمتعه بالكثرات من قبيل الشدة والضعف، والزيادة والقلة، والعلو والدنو، فتشبه من هذه الجهة حقيقة الضوء. وكما أن الظاهرة الطبيعية تنمو وتظفر بالتكامل من دون أن تفقد هويتها الخارجية، فكذا حقيقة الوجود فهي واحد خارجي شخصي يمكن أن ينتشر في جميع مراحله المختلفة، ويتمتع بألوان الكثرة، كالسبق واللحوق والشدة والضعف، من دون أن تلحق هذه الكثرات – وإن كانت غير متناهية – أي ضرر بوحدته وهويته الشخصية الخارجية(7)".
بناء على هذا النسق الفلسفي الفريد، تغدو الرؤية الفلسفة للواقع الخارجي مختلفة تماما عما كانت عليه من قبل. يشرحها "مطهري" لنا فيقول:
"يتضح أن الفيلسوف حينما يتأمل عالم الوجود، يتفحصه بنظرة فلسفية دقيقة، فسوف يكشتف في الخطوة الأولى الحقيقة الوجوبية، ومن ثم يتلمس الممكنات. وإذا أراد المضي في رحلته الفلسفية العقلية، فمن المحتم عليه أن يتخذ الواجب سُلما لاثبات وجود الممكنات، على أن اثبات وجود الممكنات ليس مرحلة ثانية بعد وجود الباري، بل تجليات لذات الباري، وليست في مرتبة ذات الحق، رغم أن ذات الحق في مرتبتها: "وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ".
إن لهذا البرهان ميزتان، الأولى: أنه لا يتكئ على استحالة التسلسل والدور، والثانية: ليس هناك شيء ولا مخلوق من المخلوقات استخدم واسطة لاثبات ذات الحق"(8).
إذن، تجربتان فلسفيتان بتمام معنى الكلمة، مارستا صناعة لبرهان اثبات الواقعية الإلهية، احداهما مرت عبر مفهوم الوجود، والأخرى برهنت على أن لذلك المفهوم "ما بإزاء". وكلتا التجربتان كانتا محاطتان بقانون المنطق الصارم للنظر العقلي الذي لا يمكن للتجربة الفلسفية أن ترفع اليد عنه وإن للحظة(9).
إن معلومات المحافل الغربية عن التطور الحاصل في الفكر الفلسفي في الشرق، ومعلومات بعض "العرب" المتأثرين بما يأتيهم معلبا من الغرب، يعوزه تحديث(10)!
.................................
المصادر:
1)    الشامي، علي: الفلسفة والانسان ص353
2)    أبو ريان، محمد علي: أصول الفلسفة الاشراقية ص363
3)    الشافعي، حسن مجمود عبداللطيف: نظرية الحركة الجوهرية عند الملا صدرا في سياق الفكر الاسلامي. ورقة ألقيت في مؤتمر الملا صدرا عام 2001 في جزيرة كيش الايرانية، ضمن "الملا صدرا والفلسفة العالمية" ص291 .
4)    الشيرازي، محمد بن إبراهيم: الحكمة المتعالية ج6ص26
5)    هاني، ادريس: مفهوم الوجود المتعالي تأسيس عريق لرؤية مبتكرة. ضمن: مساءلة الوجود على ضوء الواقعية الصدرائية، ص180، دار المعارف الحكمية، ط1 بيروت، 2015.
6)    الشيرازي، صدر الدين: المشاعر ص9
7)    اليزدي، مهدي الحائري: هرم الوجود دراسة تحليلية لمبادئ علم الوجود المقارن. ص7. ترجمة : محمد عبد المنعم الخاقاني.
8)    مطهري، مرتضى: شرح المنظومة. ص363
9)    فخري، ماجد: أبعاد التجربة الفلسفية ص172
10)    بور، رضا حاجت: ماهية الكمال وفكرة الحركة الجوهرية عند الشيرازي. ضمن : نظرات في فلسفة ابن سينا وملا صدرا الشيرازي، ص230. راجعه: مقداد عرفة منسية. سلسلة العلوم الاسلامية: المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون، تونس، 2014.

 

تعليق عبر الفيس بوك