هاتِها يا ساقي

 

 

محمد علي العوض

 

 

 

  • الصائم يحس بالزمن لأول مرة خلال العام أنّه "كم" يمكن أن يوزن بميزان ويقاس بمقياس

 

الأدب مرآة الحياة، يعكس جميع حالات النفس البشرية وانفعالاتها، لذا شكّل رمضان حضورًا في كتابات الأدباء الشعرية والنثرية. وتحفظ ذاكرة التاريخ أنّ هناك شعراء هجوا رمضان في بداية حياتهم قبل أن يقولوا فيه كلامًا جميلا عندما طعنوا في السن، ومن أمثال هؤلاء ابن الرومي وأبو نواس الذي قال:

ألا يا شهر كم تبقى مرضنا ومللناكا

إذا ما ذكر الحمد لشوال ذممناكا

فياليتك قد بِنْتَ وما نطمع في ذاكا

ولو أمكن أن يُقتل شهر لقتلناكا

 

كما شبهّ فتاةً برمضان من حيث الطول قائلا:

نبئت أن فتاة كنت أخطبها

عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول

 

وللأخطل أبيات عن رمضان يقول فيها:

ولست بصائم رمضان طوعا

ولست بآكل لحم الأضاحي

ولست بقائم كالعير أدعو

قبيل الصبح: حي على الفلاح

ولكني سأشربها شمولا

وآكل ما تفوز به قداحي

 

وحين نظم شوقي قصيدته التي مطلعها:

رمضان ولى هاتِها يا ساقي

مشتاقة تسعى إلى مشتاق

قابلها الأزهريون بعدم الرضا والنفور، ورأوا فيها تأففا غير مهذب من شهر كريم أنزل فيه القرآن، يستعجل الشاعر انقضاءه كي يعود إلى معاقرة الخمر. لكّن شوقي نفى ذلك مستدلا على ذلك بالآية الكريمة "والشعراء يتبعهم الغاوون* ألم تر أنّهم في كل واد يهيمون* وأنّهم يقولون ما لا يفعلون". ويتسق هذا النفي مع ما جاء في كتابه النثري الوحيد (أسواق الذهب) المطبوع عام 1932 ففي الصفحة 84 وصف شوقي الصوم بأنّه: حرمان مشروع وتأديب بالجوع وخشوع لله وخضوع، لكل فريضة حكمة وهذا الحكم ظاهره العذاب وباطنه الرحمة يستثير الشفقة ويحض على الصدقة، يكسر الكبر ويعلم الصبر ويسن خلال البر، حتى إذا جاع من ألف الشبع وحرم المترف أسباب المنع، عرف الحرمان كيف يقع وكيف ألمه إذا لذع.

حتى نجيب محفوظ لم تخل رواياته من الإشارة إلى رمضان؛ ففي رواية "المرايا" تطل علينا أجواء رمضانية مزدانة بالفوانيس وشغب الطفولة الصادحة بأناشيد رمضان، تسأل المارة وأصحاب البيوت والدكاكين عن "العادة".

وطه حسين يسيل قلمه مصوّرا لحظات الإفطار وحركة الصائمين الجسدية والنفسية في تلك اللحظة بأسلوب بديع يقول فيه: فإذا دنا الغروب وخفقت القلوب وأصغت الأذان لاستماع الآذان وطاشت نكهة الطعام بالعقول والأحلام، فترى أشداقا تنقلب وأحداقا تتقلب بين أطباق مصفوفة وأكواب مرصوفة، تملك على الرجل قلبه وتسحر لبه بما ملئت من فاكهة وأترعت من شراب، الآن يشق السمع دوي المدفع، فتنظر إلى الظماء وقد وردوا الماء، وإلى الجياع طافوا بالقصاع، تجد أفواها تلتقم وحلوقا تلتهم وألوانا تبيد وبطونا تستزيد ولا تزال الصحائف ترفع وتوضع والأيدي تذهب وتعود وتدعو الأجواف قدني.. قدني، وتصيح البطون قطني.. قطني، ومع تعدد أصناف الطعام على مائدة الفطور في رمضان فإنّ الفول المدمس هو الصنف الأهم والأكثر ابتعاثا للشهية.

ويصف الطيب صالح حركة الزمن في رمضان بأنّ "الأيام العادية تمضي تباعاً طوال العام. لا يكاد الإنسان يحس بمرورها. كأنّ الزمن نهر سرمدي. ولكنّ يوم الصائم - وهذه عندي من حكم الصوم- يتفلت قطرة قطرة الدقائق تمر كأنك تسمع وقع خطاها. الصائم يحس بالزمن لأول مرة خلال العام أنه "كم" يمكن أن يوزن بميزان ويقاس بمقياس. يختلط جوعه وظمأه - خاصة إذا كان الوقت صيفاً حاراً - مع كل دقيقة تمر. يكونان عجينة من المكابدة والسعادة. فإذا انقضى اليوم، يحس الصائم أنه قد قطع شوطاً مهماً في رحلة حياته. وإذا انقضى الشهر بطوله، يشعر حقاً أنّه يودع ضيفاً عزيزاً طيب الصحبة، ولكنّه عسير المراس".

ثم يقول: إنني أذكر بوضوح رمضانات صمتها عند أهلي في صباي الباكر، أول عهدي بالصيام.

كنا قبيلة أفرادها كلهم أحياء: الجدود والآباء والأعمام والأخوال وأبناء العمومة والخؤولة. لم يكن الدهر قد بدأ بعد يقضم من جسمها كما يقضم الفأر من كسرة الخبز. كانت دورنا تقوم على هيئة مربع، وفي الوسط باحة واسعة فيها رقعة رملية. كنا نجتمع للإفطار في تلك الرقعة.

نتولى نحن الصبية أمر تنظيفها وفرش الحصر عليها، وقبيل المغيب نجيء بسفر الطعام من البيوت، ونجلس مع كبارنا ننتظر تلك اللحظة الرائعة حين يؤذن مؤذن البلدة – غير بعيد منا- (الله أكبر) معلناً نهاية اليوم. وكنت في تلك الأيام قبل - أن يقسو القلب ويتبلد الشعور - أحس أن ذلك النداء موجّه لي وحدي، كأنه يبلغني تحية من آفاق عليا، إنني انتصرت على نفسي.

أذكر جيداً طعم التمر الرطب، وهو أول ما نفطر به، حين يوافق رمضان موسم طلوع الرطب. وكانت لنا نخلات نميزها ونعني بها، لها ثمر شديد الحلاوة، تخرجه باكراً.

كانوا لا يبيعون ثمارها. ولكنّهم يدخرونه لمثل تلك المواسم. وقد زرعت أصلاً من أجل ذلك.

وأذكر مذاق الماء الذي يصفى ويبرد في "الأزيار" أو في القِرَب، خاصة ماء القِرَب، الذي يخالطه شيء من طعم الجلد المدبوغ.

وشراب "الآبري" وهو يصنع من خبز يكون رقيقاً جداً: أرق من الورق. تضاف إليه توابل، وينقع في الماء ويحلى بالسكر. ومذاق "الحلو مر" وهو أيضاً من عجين مخلوط بتوابل خاصة. وحين ينقع في الماء يكون ذا لون أحمر داكن الحمرة.

هذان الشرابان لا يوجدان إلا في السودان، وهما مرتبطان برمضان. ولهما رائحة عبقة فواحة. تلك وروائح أخرى، كان خيالي الصبي يصورها في ذلك الزمان، كأنها تأتي من المصدر الغامض نفسه الذي يأتي منه شهر رمضان. كان طعم الزمان في تلك الأيام حلواً مخلوطاً بمرارة لها مذاق العسل.

لم نكن نأكل كثيراً في إفطارنا. لا توجد لحوم أو أشياء مطبوخة، كل واحد يتعشى بعد ذلك في داره على هواه، وغالباً ما ينتظر السحور من دون عشاء.

نصلي ونفطر على مهل، ونقوم نحن الصبية فنحضر الشاي والقهوة "الجبنة" وكان يسمح لنا بشرب القهوة فقط في شهر رمضان، فالقهوة عدا ذلك للكبار وحدهم...

يساوونا بأنفسهم لأننا نصوم مثلهم. ثم يأخذون في الحديث ونحن نسمع ولا نتكلم، ويا له من حديث، كان رمضان يخرج منهم كنوزاً دفينة. كنت أستمع إليهم وكأني أشرب ماء القِرَب البارد وآكل التمر الرطب".

في الجزء الرابع من كتاب "إحياء علوم الدين" يقسم الغزالي الصوم إلى ثلاث درجات: "صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص. أمّا صوم العموم فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة. وأمّا صوم الخصوص فهو كف السمع والبصر واللسان واليد وسائر الجوارح عن الآثام. وأمّا صوم خصوص الخصوص: فهو صوم القلب عن الهمم الدنية والأفكار الدنيوية، وكفه عمّا سوى الله – عز وجل – بالكلية، ويحصل الفطر في هذا الصوم بالفكر فيما سوى الله –عز وجل – واليوم الآخر، حتى قال أرباب القلوب: من تحركت همته بالتصرّف في نهاره لتدبير ما يفطر عليه كتبت عليه خطيئة، فانّ ذلك من قلة الوثوق بفضل الله – عز وجل – وقلة اليقين برزقه الموعود".