الأمة بين نسائم الشعائر، وأصوات المدافع


محمد عبد العظيم العجمي - مصر


للشعائر (فلسفة ) خاصة، إن صح التعبير أو حكمة تتعدى فيها شكل الطقوس والمراسم الجوفاء التي تخاطب الشكل وتتفاعل مع الجسد ، حكمة تطرق الروح أولا ثم تنفذ من مساربها إلى أوصال الجسد حتى تغمر كل ذرة فى كيانه ، ولذا كان لا بد لها من مقدمات تزف قدومها وتوحي بأنفاسها كما شبه أبوتمام قدوم الربيع بين محافله :
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا           حتى كاد من الحسن أن يتكلما
وقد نبه النوروز فى غسق الدجى              أصائل ورد كن بالأمس نوما
ورق ضياء الصبح حتى حسبته                يجيئ بأنفاس الأحبة نعما
فالشعائر تتهادى بين مقدمها نفحات ورياح وعبق يملأ الزمان والمكان، يغمر الأرض والجو والليل والنهار، والصغير والكبير ، حتى لتحس أن لون المكان قد تغير، وأن سير الزمان قد تحول ، وأن يدا مسيطرة تأخذك من حولك إلى عالم غير الزمان والمكان ، روح وريحان ، وجنان على الأرض ملؤها البركة والخير والسعة والصفح والغفران ، " ونزعنا ما في صدورهم من غل" ، حتى تجدك لا تحس في داخلك إلا الخير ، وكأن قوى الشر فيك قد تعطلت، وأقبل من كل فج داعي الخير ، وأقصر معه داعي الشر ، وأزكت النفوس خيرها وأحجم شرها، كما أحجمت من حولها الشياطين فصفدت فى الأغلال، واتسع حيز الزمان والمكان وأثمرت روح الخير ثمارا عمت بركتها على من حولها ، وغمرت الرحمات المنزلة الأماكن والقلوب فتهادت كما يتهادى الطير، وربتت على بعضها البعض وكأنها هبطت لتوها من عالم علوي لا يعرف إلا التراحم والتآزر والتآلف ، يمتلأ الكون بالتحية والسلام ، وتفيض روح البشرية بالعطاء وكأنما فتحت لها من أبواب الرزق مالا تخشى معه انقطاعا ، وكأنها انتقلت بأرواحها من عالم القيود إلى عالم الخلود ، ومن تغالب "يجمعون" إلى بسطة " ينفقون " .. هكذا تفرض الشعائر روحها على أرواحنا فتتبدل من عالم أرضي إلى عالم علوي ملكوتي رحيب .
ولا يكون هذا إلا في شعائر الإسلام العظيمة ، لأنها ليست من تدبير وتحبير البشر، ولم يتدخل البشر فى كلها أو بعضها ، إنما نزلت من عندالله تنزيلا وفرضت فرضا، ولم يملك البشر حيالها إلا "سمعنا وأطعنا" ، ولو كانت من عند البشر لوجدنا فيها اختلافا كثيرا ، والقصد هنا المعنيّ لا يتعلق بالشكل، بل بالروح التي تفيض بها الشعائر وما يصحبها من أثر قلبي ونفسي وروحى وجسدي وجمعي ، إن كثيرا ما يسن البشر للبشر مراسم وطقوس وتمارين كما فى بعض الديانات (الأرضية) ، وقد تكون لها بعض الأثر والنتائج على الشكل أوالجسد ، لكن ما يشرع رب البشر للبشر شيء آخر ، لابد أن يجد أثر ذلك فى كل نفس ونفس وروح وبدن .. إن أمر الروح هو من عند الله ولم نعلم عنه إلا القليل ، ولذا كان ما يقوم به أودها ، ويصلح شأنها، ويزكي روحها لا يكون كذلك إلا من عنده ، فلكل صنعة صانع ، وإذا كان هذا ما نؤمن به فى قانون الشهادة ونثبته ، فكيف بقانون الغيب؟ ! وهكذا كان أمر هذه الصيانة لا يكون إلا من عنده هو، وإذا كان منا الإيمان والتسليم والأخذ بغير اعتراض، كان لنا من الزكاء والعطاء والبركة ما لا حد له ولا انقطاع .
يأتي رمضان بهذا الموكب العاطر يزفه إلينا قبل قدومه هذه المقدمات التى تقدمه (رجب وشعبان) ، فتتهيأ الأرض وتتعطر السماء ، ويعاد صياغة شكل الزمان والمكان ، وتستعد الجنان وتغلق النيران، وينثر الخير عطره فى كل أرجاء المكان ، إنه اتصال وجواز مروري بين الملأ الأرضي والعلوي ، ليفيض الثاني على الأول بفيضه ، ويجمع الثاني من الأول ما لا يستطيع كنزه طيلة العالم ، ويحصي فى جعبته مالا يتاح له فى أيام أخر، يتخفف الجسد من شهوته البطنية والفرجية والبصرية والسمعية والقلبية، فيخف حمله ، وتسمو روحه حتى تصير أهلا للفيوضات والرحمات والبركات، ويغدو خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، "ويجوع أليف الشبع ، ويحرم المترف أسباب المتع، ويتعود خصال البر، فيعطي الصدقة ، ويحض على الشفقة ، ويتحمل عنت الحرمان ، ويحس لذعة الجوع، ويجرع مرارة الصبر.. ليكون بذلك الأجر بغير حساب ، " إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به " ، وياله من جزاء ، إذا كان تعهد به المعطي وتكفل بأداءه ، وهو من ليس لعطاءه حدود ، ولا لغناه منتهى ، خزائنه لا تنفذ أبدا ، فكيف يكون الجود ؟!!!
ثم تأتي الصلاة وعمارة المساجد " وحق على المزور أن يكرم زائره" ، فكيف بالكريم المزار؟، إن من خيرية الامتثال أن تنقلك من خير إلى خير ، ومن عبادة إلى عبادة ومن أجر عظيم إلى أجر أعظم ، وهذا من بركة الصيام وما يحققه من فيض على العبادات الأخرى التي تزكو به ، ومنها الصلاة ، ولا شك أن أجرها مع المشقة أعظم ، "فالأجر على قدر المشقة" ، وأداء الصلاة مع الصيام أعظم من أداءها منفصلة،  ثم يأتي الليل ومعه القرآن فى بركته وفرقانه ونوره وهديه وفتحه ونشره، تقشعر منه الأبدان، وتوجل منه القلوب ، ويهتز له الوجدان ، وتصدع آياته الجدر التى أحاطت بالنفوس ، وتجلو ما ران على القلوب ، وتمحو آثار الذنوب ، ويصعد ذكره إلى السماء عاليا حتى يهيج معه الملآ الأعلى ، ويسمع دويّ كدويّ النحل، ونحيب من نشيج الصدور كغلى المراجل وفور القدور، وتلألأ المساجد بالنور الذي يميز لأهل السماء من الأرض، ويعم الفرح النفوس برها وفاجرها طالما كانت مقبلة غير مدبرة ، وآتية غير مولية ، " قل بفضل الله وبرحته فبذلك فليفرحوا.. يونس" .
ولكن .. إذا كان يحق لنا الفرح بهذه النسائم والشعائر والبركات ، فلا بد أن نقف وقفة أمام ما يحيق بإخواننا فى أرض الإسلام .. فرغم ما يحمل لنا من الخير، إلا أن الأمة التي حق لها أن تستقبل هذا الخير، ليست كما يرجو لها رمضان، أوكما ينبغي لها أن تستقبله ، إنها لتكاد تكون عنه فى شغل، فالجسد ممزق ، والأشلاء متناثرة ، والشعوب مقطعة فى الأرض أمما ، والأرض مباعد بين أسفارها، فهل يجتمع صخب المدافع والمعارك مع نسائم الشعائر؟! ، وهل يستشعر فرحة القدوم بما تحمل من عواطر البركة تحت قصف الطائرات والدبابات وفى باصات التهجير القسري والتطهير العرقي؟! ، وهل يدرك طعم الصيام مع مكابدة الجوع والعطش وحرمان الليل والنهار؟! وهل يستمتع بصلاة الليل والتراويح فى العراء، تحت سقف السماء و تيه الفلاة و فقد فلذات الأكباد ؟ وهل نحس قراءة القرآن وطلاوة الأوراد مع صياح الصغار ونحيب الكبار وقهر الرجال؟ وهل أدرك كثير من هؤلاء ــ قدوم رمضان وفرقوا بين لحظات الزمان وتتابع الشهور، أوشغلت أذهانهم أجندة التاريخ وعداد الأيام وأوراق النتائج ؟!
إذا .. فأين رمضان ؟ !!! أين رمضان من هؤلاء المعذبين المشردين المقطعين فى الأرض؟ وأين نحن منهم ؟ هل يحق لنا أن نغبق من فيوضات الشعائر، أو هل نستطيع أن نسارع فنجمع من خيرها قدر ما نستطيع قبل انقضاء الزمان وفوت الأوان ؟ وهل نحن إن فعلنا ذلك مأجورون ؟! أم مسئولون عما قصرنا فى حق إخواننا هؤلاء المنكوبين ؟ كثير من التساؤلات  تفرض نفسها ، ولا بد لها من جواب .
لقد وقفت على حديث بسيط من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه : "  ما آمن بي  من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم ." (رواه الطبراني)
وإذا كنا قد علمنا منذ الصغر أن هذه الأمة جسد واحد لا يألم له عضو حتى تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى ، وإذا كان صاحب الرسالة يحذر بنفي كمال الإيمان عن هذا الذي بيبت شبعانا ولا يحس بجاره الذي يطوي على الخمص الحوايا ، وإذا كان المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا .. إذا كان كل هذا كذلك، فهل يعقل أن يكون نتاجه ما نحن فيه ؟ وهل تصير العبادة التي تجمع الأمة تحت عباءة الأخوة الإيمانية ، ومظلة الشريعة الواحدة ، تصير من الشكل حتى لا يحس الجسد بما يقتطع من أعضاءه كل يوم ، وهل تصلح العبادة مع حالة من الانفصام الجسدي والنفسي فأين التداعي، وأين السهر؟!!
إن المسلم لا ينبغي له أن ينفصل عن واقعه ، ولا أن يتخلى عن إخوانه من أبناء أمته ، فإذا كان يحيا كما سبق مع شعائر ربه حيث أمر، فينبغي كذلك أن يبذل وسعه لإخوانه كما أُمر ولو كان أضعف الإيمان وهو الدعاء لهم بظهر الغيب، أن يفرج الله كربهم ويفك أسرهم ، ويحمل ضعيفهم ويشفي مريضهم ، ويؤمنهم من خوف ويطعمهم من جوع.. ولا يستطيع المؤمن أن يحقق الأخوة الإيمانية أو يصيب روح الشريعة وهو يغفل عما يدور بأرضه وسماءه ، وما يحيق بإخوانه ، فمواسم الطاعات حين تهل علينا وتحل بأرضنا ، لا تكون لوطن دون وطن أو أرض دون أرض ، إنها تأتي لأمة الإسلام عامة ، يهل عليهم الهلال برؤيته ويشملهم رمضان بروحانيته ، ويسمع دوي القرآن فى كل بيت وقرية وقطر، وإذا كان هناك من لا يستطيع أن يبلغ ذلك ، أو حالت الأقدار دون أن يبلغه ذلك .. فالله نسأل أن يجمع الشمل ويلأم الجرح ويربط على قلوب المجاهدين ، فلا تخلو الأمة من العابدين ولا تحرم من المجاهدين وهي بين وذلك يحق لها أن تكون أمة التمكين " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصلحت ليستخلفنهم فى الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا .. النور " .

 

تعليق عبر الفيس بوك