"ونُفخ في النّاي" لعبير إسماعيل

متى ينهض طائر الفينيق؟



د. يوسف حطّيني


تطلّ علينا الكاتبة السورية عبير إسماعيل بكتاب جديد، يحمل عنوان "ونُفِخَ في الناي"، تحكي لنا فيه قصة احتراقها وانبعاثها. هكذا.. مثلما يحترق طائر الفينيق ويصبح رماداً ليولد من جديد، تولد الكتابة في قلب عبير من ركام الأبنية وعويل الثكالى وأنين الجرحى، تولد من الدمار الذي خلفته سنوات الحرب في سورية،  وهي ؛ إذ ذاك، تعلن عبر قدومها عن "قيامة" سوريا جديدة، ليست بحاجة إلى "نفخة في صور"، بل إلى "نفخة في ناي". وبين الصور والناي ما بين الحرب والحب، وبينهما طريق تكتب فيه عبير عن الأشياء كما تراها، فتتحدث عن عالم يشبه "مشفى مجانين" يتحكّم فيه الطغاة بمصائر الشعوب.
في هذا العالم المزيف، تكتب عبير عن أنثى الخزامى التي سُجن عبيرها وراء الجدران، وعن عالم مليء بالحرب والدمار والزيف والخطايا والآثام، مؤكدة على دور الشعر في مقاومة كل قبيح، وكأنّها تريد أن تواجه الحرب بالشعر حيناً وبالحب حيناً آخر؛ فالشعر عندها جزء من الحرب، يخوضها، لا ليؤججها، بل ليخلّصها من براثن الفناء عبر الحب: تلك المفردة السحرية التي لا تغيب عن صفحات الكتاب، رغم كل كلمات الحزن والقسوة. وإذا كانت الكاتبة تدرك أن الحب لا يحمي من الموت؛ فإن لفطة "أحبك" نفسها، قادرة على مجابهة الحرب، وعلى إعادة خلق الحياة من جديد:
"أحبك: وطنٌ صغير بعيد عن الأعين
لا تفتته حرب
ولا تطاله نيران"
* * * * *
في "ونفخ في الناي" ينفتح الكلام على سبع نوافذ، و"كل نافذة تطل على نهر، وكل نهر يتّكئ عل هاوية"، كما تؤكّد الكاتبة في العتبة الثانية، وهذه النوافذ هي "البلاد/  عني/ طغاة ـ ضحايا/ سكّان الهامش/ عيون الشعر/ مشفى المجانين/ عنه. وهي تمثّل الأطر الموضوعية التي دارت حولها مجموعة عبير. وعلى الرغم من ضيق هذه النوافذ حيناً واتساعها حيناً آخر؛ فإن نافذة ثامنة بقيت مفتوحة على مصراعيها هي نافذة الرومانسية التي برزت عبر مجموعة من الخصائص:
فالعزلة حاضرة في طقس الكتابة، وفي طقس الحياة ذاتها، إنها الملجأ الذي تلوذ به الكاتبة من الحرب حتى في الإهداء؛ لذلك تقرّر أنّها تدين بشاعريتها لتلك العزلة فتقول: "لفرط وحدتي صرت شاعرة"، تجلس على حافة وحدة شاهقة، حتّى تنتصر على خواء الروح، فتقول:
"في شوارع عزلتي الداخلية
أراعي التقيّد بإشارات المرور
حتى لا يصدمني
فراغ أرعن".
ومثلما يفزع الرومانسي إلى عزلته، ليبثّها موقفه تجاه الآخر تفعل عبير، ومثلما يبثّ الكائنات حزنَه الشفيف فقد منح قلبَ الشاعرة للحزن، لذلك فهي تدين له أيضاً بشعرها، فالحزن عندها "أمّار بالشعر"، وفي ظل هذه اللوعة العميمة التي تكسّرت نصالها على نصالها، يصبح الحزن ذاته جنسية، ويصبح الحزين جديراً بأن يمنح الجنسية السورية التي أعطت العالم الأبجدية الأولى، ولم يعطها سوى الأسى:
"لقد منحْنَا الحزنَ جنسيّتنا
حتى صار أشقياء الأرض
فروعاً لشجرة العائلة".
ومن الحزن يولد التشاؤم والإحساس باللاجدوى، حين يشعر منشد الكلام أن الناس يضعون أصابعهم في آذانهم حتى لا تنتقل إليهم عدوى الحب، فالكلمات الطيبة ستصطدم بجدار الخيبة، وبرج الصمم الهائل، والتجاهل المطلق، والتغافل عمّا يمارسه الطغاة في هذا العالم على نحو ما نرى في نص الطاحونة.
وتبرز الطبيعة موئلاً من موائل الكاتبة، فتعبّر عن ألمها من خلالها، وتشبّه نفسها بشجرة ألم غريبة. ولعلّ من أجمل آثار الطبيعة على الكاتبة "القوة الناعمة" التي منحتها القدرة على الصمود في مواجهة احتمالات الرحيل؛ فهي ترفضه استناداً إلى قوة الطبيعة وجمالها واستقرارها في الوجدان. تقول عبير في واحد من أجمل مقاطع مجموعتها:
"أمام مبنى الهجرةِ والجوازات
شجرةُ غاردينيا..
أزهارها حالت بيني وبين جواز السفر".
*****
ولا يحتاج القارئ كبير عناء حتى يلاحظ أن نصوص المجموعة تتوفر فيها الوحدة الموضوعية التي تمنح وحدة الانطباع، وتذكّر بطريقة بناء النص عند علمين من أعلام الأدب السوري هما: محمد الماغوط ورياض الصالح حسين، فالنص ينمو، ويميل إلى السردية، ويقود إلى مفارقة عرفتها عبير وخَبِرَتْها مع القصة القصيرة جداً.
الوطن "صديقي على الفيس بوك" نصّ يمثل تلك الوحدة الموضوعية التي تحقق وحدة الانطباع المنشودة في هذا النوع من النصوص. يتحدّث النص عن وطن كانت منشوراته رائقة على صفحته، ولكنها صارت نزقة تتحدث عن الدم والدمار الذي يلامس حياة الكاتبة مباشرة، يضع الوطن صورة حارة مهدمة فيتشقق بيتها، ويشارك روابط المعارك فتخاف على أطفالها، وينشر صورة سكين فتتحسس عنقها. ثم تأتي الخاتمة تتويجاً للحديث عن وطن لا تستطيع الكاتبة إلا أن تنتمي إليه:
"الوطن صديقي المزعج على الفيس بوك
لا أستطيع حظره، ولا الإبلاغ عنه
ولا أدري متى يشفق عليّ
فيحذفني".
وتقوم لغة الكاتبة على الصورة الحية النابضة التي تفيد من البشر والجمادات والنباتات، وتقيم مبادلات حسية بين أجزائها، فالضحكة لها رقة حمام المسجد الأموي، ونصوص الغيوم "تنشب برقها في جسد الأرض، لتفيض من جراحه الينابيع، وأما الشاعرة التي تتحدث عن لا جدوى الرحى فهي مجرد " ركام مطحون"، والسكين الذي تظهر صورته على الفيس بوك ينتقل نصله متجاوزاً ساحة الفضاء الأزرق.
"وإلى الآن
ما زال عنقي يوجعني
من صورة تلك السكّين".
وتفيد الكاتبة في من الظلال والمرايا، فالظل الصغير يأكله الظلّ الكبير، والمرآة التي ترى من خلالها ذاتها في حبيبها، وترى حبيبها في ذاتها لن تحلّ المشكلة؛ فالمشكلة هي ما تشير إليه الكاتبة في قولها:
"لم أعد أنظر إلى مرآتي
منذ آخر غبش ألمّ بي"، ص75.
وثمة طريق وحيدة حتى يزول ذلك الغبش عن مرآة نفسها، عن مرآة الوطن، هي: أن ينفخ أهله في الناي لحن المحبة والسلام، حتى يعم الخير من جديد، وحتى ينهض طائر الفينيق من رماده مرة أخرى.

 

تعليق عبر الفيس بوك