مجتمعنا يتطور بذكاء.. ظفار أنموذجا (1)

 

د. عبدالله باحجاج

المتابِع للحركة الاجتماعية في بلادنا -محافظة ظفار نموذجًا- سيُلاحظ حركة تطور اجتماعية ديناميكية غير مسبوقة؛ مما ظَهَر لنا المجتمع معها يُعِيد صناعة قوته الذاتية لمواجهة التحديات التي قد تعترض مساراته الإنسانية والاجتماعية، واللافت أن وراء هذا التطور مجموعة نشطاء من فئة الشباب، أخذوا على عاتقهم تطوير مجتمعهم بذكاء، مُستلهمين ذلك من ثقافة أصيلة ملهمة لهم، متفق عليها "اجتماعيا ووطنيا"، رغم أنَّها قد حيدت عن مسار حياتنا المعاصرة، قد يكون السبب في الأذكياء الذين ظهروا خلال المرحلة الوطنية السابقة، فوظفوا ذكاءهم لمنافعهم الشخصية أو الفئوية، ولم ينتصروا لثقافتهم الأصيلة، وقد يرجع لدور الدولة التدخُّلي الذي من خلاله احتكرت الحكومة كل مناحي المشهد الاجتماعي، وبأدق جوانبه وتفاصيله.

وبانتقال دور الدولة الآن إلى الجبايات، يفتح كل الأبواب على مصاريعها، حيث لم تعد الحكومة تحتكر مشهدنا الوطني بما فيها الاجتماعي ولا النخب القديمة؛ فأصبحنا أمام مرحلة مفتوحة ومنفتحة، وكل من يظهر فوق السطح، ويمتلك مشاريع إصلاحية جذابة، سيكسب بها الأفراد والجماعة والمجتمع، أما من يكون لديه مشاريع غير ذلك، سيشغل بها الرأي العام لفترة من الزمن حسب ماهية البضاعة، ومدى استدامتها، وتلاقي المجتمع حولها، وموقف المؤسسة الحكومية منها. وحتى الآن، لم يظهر فوق سطحنا إلا المصلحون الذين لديهم مشاريع تطويرية نبيلة، وكل من يظهر بغير ذلك يختفي فجأة، أو يظل شاذا في مسيرة يحكمها الآن الوعي، على عكس الأدوات الأخرى التي كانت سائدة إبان مرحلة الدور الرعائي للدولة، والتي بسببها ستعاني الدولة قليلا ومؤقتا حتى يتأكَّد للنخب جدية الانتقال في الدور وفي المفاهيم التي تستلزمه وجوبا عملية الانتقال.

وهذا الوعي الجديد نلمسه بوضوح في التفكير الذي يقف وراء كسب شرعية مشاريع التطوير الاجتماعية والخيرية من قبل مجموعة كبيرة من الشباب، فهو -أي الوعي- لم يسعَ إلى الصدام أو المواجهة مع المؤسسات الحكومية والرسمية والاجتماعية القائمة، وإنَّما عمل أولا على كسبها وبناء الثقة معها، والدخول معها في شراكة تحت مظلة قانونية وإشرافية مشتركة، في تكاملية رائعة في الأدوار الأهلية والحكومية، وربما لن نجدها في أية دولة أخرى؛ مما يكون القول معها إننا لدينا الآن تجربة فريدة يمكن البناء عليها، وتأسيس إطار مفاهيمي للشراكة الآمنة والمستقرة بين مؤسسات المجتمع المدنية والأهلية والحكومة. فهذه التجربة من أهم ما يميزها بناء الثقة وتعزيزها بين الجانبين؛ بحيث أصبحت كل مبادرة -سواء اتخذت شكل فريق، أو لجنة، أو جمعية- تعمل تحت إشراف مؤسسة حكومية من حيث المظلة القانونية والإشراف على خططها المالية وأوجه الصرف المالي، مع ترك استقلالية لها في التسيير والتدبير.

فمثلًا: جمعية بهجة للأيتام تعمل تحت إشراف وزارة التنمية الاجتماعية، وفريق الأيادي البيضاء يعمل تحت إشراف الجمعية العمانية للأعمال الخيرية، ولجنة الزكاة بولاية صلالة تعمل تحت إشراف وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، فهل تأملنا في هذه الهندسة الهيكلية، فهى حتمية ليس من المنظور الحكومي لتبديد هواجسها من الوجه الآخر لمثل هذه المؤسسات، وإنما هي كذلك من المنظور الاجتماعي، لدواعي الثقة في هذه المؤسسات المستقلة التي تعمل على جلب الأموال من الافراد والجماعات والشركات. فالتيقين بوجود رقابة ثنائية مشتركة من الجهات الحكومية والأهلية على هذه الأموال وصرفها على الحالات المستحقة، يدفع للدعم المالي والانخراط فيها بسهولة ودون تردد، وهذا وراءه دون شك وعي رفيع من جيل الشباب أنفسهم؛ فلولاه لما شُهد العمل الخيري والإنساني يؤتى أكله في استحقاقات طبيعية وهادئة دون أية إشكاليات أو مشاكل، ودون أن يظهر قيادات فردية أو يصطبغ العمل الخيري الاجتماعي بالفردانية في العمل والتأثير بها أو التأثر بذواته، وإنما الغالب هو العمل الخيري المجرد والخالص، وحتى لو ظهرت قيادات في العمل الخيري، فإن ذلك يكون مرتبطا بمبادرة اللحظة وفي سياق العمل الجمعي، لن نجد في خارطة الأعمال الخيرية لتلكم المؤسسات قيادات أحادية التسيير والتدبير من المنظور الإعلامي أو الجماهيري، وإنما عمل جماعي، له مظاهر متنوعة، ووجوه عديدة، ملموسة في المجتمع.

ولو وقفنا عند نجاحات جمعية بهجة للأيتام، فهى تحتاج لمجلدات؛ فالفكرة ونشأتها، ومن يقف وراءها، ودوافعها، هى السر الذي وضع الله عز وجل فيه الأثر الخارق للمحظورات -آنذاك- وهو السر نفسه الذي يقف وراء كل نجاحات الراهنة والمستقبلية، فوراءها فعلا نوايا عاشت معاناة في حياتها، ومنها -أي المعاناة- تولد الأمل (الجمعية) في وقت كانت الاستحالة هي عنوان المرحلة من منظور هاجسها الأمني القديم، لكن عندما تتوفر النوايا الصادقة، وتكون مقرونة بالجهد المخلص، تتكسر أمامها "اللاءات"، وإحساسنا بها -أي المعاناة- يقول لنا، إنما تلكم المعاناة إلا سوى قدر مكتوب عليها، لكي ينتج منه أمل كبير يضع حدا أو يخفف من معاناة الآلاف، وبصورة مستدامة.

نكاد نُجزم بأن هذه حقيقة، نرصدها بكل حواسنا الخمس؛فما أجملها من معاناة فردية إذا كانت ستحقق للمجتمع آمالا عريضة وكبيرة، وعلى مساحات وفضاءات إنسانية تتجاوز فئة الأيتام والأرامل الى الفقراء، وتنقلها من موارد المنة والاكرامية القائمة على المزاجية إلى موارد مستدامة، وهذا آخر نجاحات الجمعية الباهرة التي لم نتناولها في مقالاتنا السابقة عن هذه التجربة الرائعة، فهذه الأيام تلاحظون عبر وسائل التواصل الاجتماعي وفي المراكز التجارية الكبيرة، إعلانات عن "المبنى الخيري الأول للأيتام في ظفار" وهو مشروع رائد يهدف لإيجاد مصدر دخل ثابت للجمعية، فالمبنى سيقام على أرض مساحتها 405 أمتار مربعة بسبعة أدوار مع سرداب، وبه معارض للإيجار و30 شقة بمنطقة عوقد خلف صلالة مول، يبدأ السهم من خمسة ريالات إلى عشرة آلاف ريال، أي في متناول الكل، وهذه فرصة متاحة الآن لكل مواطن أن يكون لديه صدقة جارية، مصداقا لقول رسولنا عليه أفضل الصلاة والسلام "إذا مات ابن ادم، انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له"، فمن سيفوت على نفسه هذه الفرصة الآن؟ وكيف لا ندعم مثل هذه التوجهات التي تحاول ضمانة ديمومة التمويل للعمل الخيري؟ وهنا ينبغي أن تستشعر هذه المعاناة التي من رحمها تولد هذا الأمل، بقدرية معاناتها، وحتمية نجاح مشروعها عبر أطوراه المختلفة حتى وصل الآن إلى رفع مستوى معيشة 1200 يتيم والكثير من الأسر المحتاجة، وقريبا سيرى النور حلم العمارة الوقفية لهؤلاء الأيتام  والأرامل والفقراء.

لن نخشى في حالة نجاح هذا الوقف الخيري على معيشة الفئات المحتاجة مهما كانت تقلبت أو تحولت الظروف المعيشية والمالية بفعل أية أزمة مقبلة، وكذلك مهما طرأت على المزاجية الخيرية من تبدلات في دعم العمل الخيري والإنساني داخل المجتمع، فعندهم سيكون مصدر دخل ثابت، وهنا يجد كل مواطن نفسه في سباق لزاما عليه دخوله في هذا الشهر الفضيل، فخمسة ريالات، قيمة الحد الأدنى للسهم في هذا المشروع الاقتصادي الخيري، يمكن لرب الأسرة أن يقتطعه من راتبه لو بصعوبة -عند البعض-  من أجل الصدقة الجارية، فنحن في شهر تتضاعف فيه الحسنات، فإذا كانت الحسنة في غير رمضان بعشر حسنات، فكم ستكون في هذا الشهر الكريم؟  وأنها -أي الصدقة- ذات ديمومة أي ليست منقطعة؟ فمن يحرم نفسه من هذه الخيرات العظيمة؟ والرسالة موجهة بالدرجة الأولى إلى الأغنياء والمقتدرين، فمن سيحرم نفسه من صدقة جارية مضمونة بإذن الله، وفي شهر الحسنات؟ يمكن الإيداع نقدا عبر صناديق الجمعية في المراكز التجارية أو بنكي ظفار ومسقط.

وفي الجزء الثاني من المقال، سيتضح لنا التطور الاجتماعي الذكي من وحي الثقافة العمانية الذكية الملهمة، في أسمى تجلياتها المشهودة من خلال رصدنا وتحليلنا لمبادرات شبابية، تمكن البعض من اكتساب الشرعية الحكومية، وأخرى شغلت وسائل التواصل الاجتماعي، ونزلت إلى الواقع الاجتماعي، فنجحت في كسب شرعية المؤسسات الاجتماعية المستقلة وشبه المستقلة، كمؤسسات الشيوخ، واخترقت الذهنيات الجامدة، وذلك للاستدلال بها على أن ما يحدث الآن في بلادنا يدخل ضمن صيرورة زمنية جديدة، حتمية وطبيعة في ظل انتقال دور الدولة إلى الجبايات، لكن يظل المثير فيها إعمال الذكاء في إحداث التطور، ولو ذلك، لظللنا نعاني كثيرا، لوجود عقليات غير منفتحة مع التحول في دور الدولة، ويبدو أن الذكاء سيكون هو السلاح الوحيد لتغيير المفاهيم المتوارثة التي تقف حجرة عثرة أمام التطورات الحتمية، وما أكثرها رغم ما نقدمه من إيجابيات تدلل على العكس.