شؤون بيئية عُمانية (4-2)

 

علي بن كفيتان

خَتمنا المقال السابق بالإشارة للبناء المؤسسي البيئي في السلطنة؛ من خلال التوجيه السامي الكريم من  قبل جلالة السلطان -حفظه الله ورعاه- بإنشاء مكتب مستشار حفظ البيئة في العام 1974 كأول مؤسسة تُعنى بالشأن البيئي في البلاد، ولا شك أن حقبة السبعينيات من القرن الماضي شكَّلت منعطفاً مهمًّا في العمل البيئي؛ ففيها تشكل أكبر عدد من المؤسسات البيئية، مقارنة بالحقب التي تلتها، وهذا يعبِّر بجلاء عن الاهتمام الكبير الذي توليه الحكومة للحفاظ على البيئة، وجعلها ضمانًا للنقلة التنموية الكبيرة التي قادها جلالة السلطان -حفظه الله ورعاه- مع كل ما صاحبها من سلوكيات أثرت في المشهد البيئي اليوم.

ففي إطار البناء القانوني والمؤسسي، صدر قانون مراقبة التلوث البحري في العام 1974، وشكل بذلك القانون البيئي الأول الذي خُصص لحماية البيئة البحرية، وهنا استشراف مبكر للآثار البيئية المحتملة من تدفق كميات كبيرة من النفط عبر مضيق هرمز والسواحل العُمانية إلى مختلف أنحاء العالم، ويُحسب للسلطنة هذا التأطير القانوني المبكر رغم الانشغال الأكبر ببناء الانسان وتعليمه وإيصال الخدمات إليه أينما كان على تراب الوطن. وكتطوُّر طبيعي للاهتمام بالبيئة أنشئت الهيئة العامة لحماية البيئة ومكافحة التلوث في مارس 1979 وكانت هذه الخطوة نقلة نوعية كبيرة في الإطار المؤسسي البيئي بالسلطنة؛ فجاءت الهيئة كنوع من التكامل مع مكتب مستشار حفظ البيئة، وفي ذات الوقت وطدت لعمل مؤسسي متكامل لحماية البيئة، وربما المطلع على مرسوم إنشاء الهيئة يرى أنها أتت تجاوباً مع الوثيقة النهائية لمؤتمر الكويت الإقليمي لحماية وتنمية البيئة والبحرية والمناطق الساحلية التي وُقعت في أبريل 1979، وبموجبها تم إنشاء ما يعرف اليوم بالمنظمة الإقليمية لحماية البيئة البحرية (ROPME) التي تضم دول مجلس التعاون الخليجي وجمهورية العراق والجمهورية الإسلامية الإيرانية، ومن ضمن إنجازات الهيئة إصدار قانون الحدائق الوطنية والمواقع الطبيعية المحمية في مايو 1979، ويعتبر هذا القانون هو اللبنة الأولى التي تنظم إنشاء المحميات الطبيعية في السلطنة، وبموجبه أنشئت لجنة فنية استشارية أوكلت مهام أمانتها العامة لمكتب مستشار حفظ البيئة.

وفي مرحلة لاحقة أُنشاء مجلس حماية البيئة ومكافحة التلوث في ديسمبر 1979 برئاسة جلالة السلطان -حفظه الله ورعاه- وعضوية عدد من الوزراء المعنيين، وبموجب المادة السابعة من قانون إنشاء المجلس حُلت الهيئة العامة لحماية البيئة ومكافحة التلوث. إن هذا التطور الجديد في الإطار المؤسسي والقانوني لحماية البيئة منح الشأن البيئي أهمية أكبر ضمن أولويات الدولة عبر دراسة جلالة السلطان -أبقاه الله- لهذا للمجلس.

ما تناولناه في هذا المقال هو المرحلة الأولى من البناء المؤسسي لحماية البيئة في السلطنة ويبين لنا مدى أهمية الخيار البيئي لدى سلطان البلاد المفدى وحكومته الرشيدة منذ البدايات الأولى لمراحل التطوير والبناء، فلم يُغفل الشأن البيئي، بل ظل حاضراً وبقوة في كل المشاهد خلال فترة سبعينيات القرن الماضي؛ فتوج بإنشاء هيئة لحماية البيئة، وإرساء قانون للحدائق الوطنية والموقع الطبيعية المحمية، ومن ثم إنشاء مجلس لحماية البيئة ومكافحة التلوث برئاسة جلالة السلطان -حفظه الله ورعاه- شخصيًّا. ولا شك أن الطفرة التنموية والاقتصادية الهائلة التي عاشتها البلاد كانت لها تبعات بيئية، فعندما هجر الناس قراهم بحثاً عن فرص أفضل للحياة تراجع خيار الاستدامة البيئية الذي كان الإنسان العُماني هو أساسه في هذه البيئات الشحيحة، وترتب على ذلك التخلي عن الأعراف التي كانت تنظم الرعي، والاستيطان، وتنظيم حصص المياه، والحفاظ على الثروة السمكية؛ فتكاثرت المواشي مع حفر الآبار وتوافر الرعاية البيطرية، وأصبح الرعي مشاعًا بعد أن آلت ملكية الأرض للدولة، ودخلت العمالة الوافدة كخيار بديل للإنسان العُماني في الرعي والزراعة والصيد السمكي، ومن هُنا كانت بداية تراجع إنتاجية الموارد الطبيعية على حساب النمو السكاني وزيادة مستوى الرفاه الاجتماعي.

وللموضوع بقية بإذن الله تعالى في المقالات القادمة.. حفظ الله عُمان، وحفظ سلطانها وشعبها الوفي المعطاء، وحفظ لنا بيئتنا العُمانية خالية من كل المنغصات.