العربات التي تَلتهِم لحومَ البشر


فرج الضوى – شاعر مصريّ

 

متوحّشِةٌ تِلكَ المُصَفّحاتُ السريعةُ التي تَمضِي بسرعةِ الطير
على عَجَلاتِها الحديديةِ
 حِينَ تَأخُذُنَا إلى مَدائنِ المَوتِ الخَربةِ دونَ إنذار
ولكِنْ قَبْل أن تَأخُذَنَا تُمزِّقُنَا إرْبًا،
وتَلهو بِنَا كالحوتِ حِينَ يَلهوُ بالفقماتِ في المُحِيط
يُطيِّرُهَا في الهَواءِ،
ويَقذِفُ بِهَا إلى بعيدٍ حَدّ الشاطئ
ثُمّ يَلتِهمُها ويَتحوّلُ لونُ المَوجِ الأبيضِ
إلى اللونِ الأحمرِ المُخِيف
الموتُ قديمًا
كانَ وَقورًا وكِلاسِيكيًا
يَأتي دومًا حِينَ تَوَقّعنَاه
بِحُلّةٍ أنيقةٍ سَوداءَ،
وعَرَبةٍ تَجُرُّها خيولُ الموعدِ الأخير
يَستأذِنُ في الدخولِ ليأخُذَ مَنْ تَوقًّعْنَا
ثُمّ يَمضي بهِ إلى المَدَى الضبابيِّ المَجهول
ونُلقِي عَليهِ بعضًا مِن تَرَانيمِ السّماءِ
كانتْ تَلهوُ ببراءةِ المَلائكةِ
وبِبضْعةِ ألعابٍ مِمّا أهدَاها والِدُها في عيدِ مولِدِها الثامِن
تَنظُرُ بفرحَةِ الفَجرِ
إلى الرُّبَى والزروعِ التي تَمُرُّ أمامَ نافذتِها
وتُمسِكُ الهَواءَ بِذَرَاعَيْهَا
كأنّها تَرسمُ صورةً للدُّنيَا
كانَ الهَواءُ يُقبِّلُ وِجْنَتَيْهَا،
والشجرُ والطيورُ، والزروعُ الخضراءُ
والحقولُ والمِياهُ والسواقى، يُلقون عليها التحية
بَل كانوا يَسجدونَ في مِحرَابِها
لأنّ جَمالَ الكونِ الواسعِ في قَسمَاتِ الوجهِ الربّاني
آهٍ يَا طُهْرَ الياسمِين
مَن يَملِكُ قلبًا ببراءةِ هَذَا الوَرْد؟
ذاتُ الخَمسِينَ رَبيعًا تُنظرُ للأفقِ، ومِنه إلى اللاشيء
وتَلتمِعُ الدمْعَةُ بالشوقِ بعينَيْهَا
تَحضنُ طيْفَ الواقفِ عِندَ الرصيفِ البعيد
وتَحلُمُ أنْ تَجمَعَهما لحظَة
ولمْ تَأتِ اللحظَة
وفي لحظةٍ
أتَتِ الْلحظةُ الهَمَجيةُ المتوحشةُ التي فَرَضَتها الوحوشُ المُصَفّحةُ
التي تَجري على العَجَلاتِ الحديديةِ
لفَظَتْنا، ألقَتْ بِنَا، مَزّقَتْنا،
أطَاحَتْ ولَعِبتْ بِنَا في الهَواء
مَزَّقَتْنا أشْلاءَ مبعثَرةً
حتّى أنّ الأرضَ بَكَتْ،
ولمْ تَستطِعْ شُربَ كؤوسِ الدِّماءِ التي أسْكَرتْ تِلكَ الوحوش
ثُمّ مَاذَا بعدُ أيّتُهَا السماء؟
أيُّ آلهةٍ خَرقاءَ فوضويةٍ تَعبَثُ؟!
تِلكَ لمْ تكُن كوميديا لدانتي
بَل تُشبِهُ مَأسَاةَ الحَلّاج
دُنْشوَانيةً / كَرْبِلائيةً / هيروشِيمِيةً / أيلوليةً / تسُونَامِية  
الهَلَعُ / الذُّعْرُ / الرّعبُ / الخَوف
الظلامُ ... الظلامُ ... الظلام ...
يَنهَشُ الأمْنَ مِن ضلوعِنَا
الموتُ هُنَا
سَهلٌ جِدًا، ورَخيصٌ، وغيرُ متوقّعٍ
خَائِنٌ/ جَائِرٌ/ مَجنون
أهْوَجُ / أرْعَنُ
يَلعَنُ الحياةَ
ويَكْرهُ النور ...!
 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك