الْمَوْتُ وَالْمِيلاَدُ فِي الْمَوْتِ

...
...
...

 

د. محمَّد حِلمي الرِّيشة – رئيس بيت الشعر الفلسطيني

1.
تَحْبَلُ أُنْثَى الْأَحْزَانِ جَهَارًا
لَا تَأْثَمُ
إِنْ كَانَ الْإِنْسَانُ يَعِيشُ المَوْتَ
بِصَدْرٍ مَفْتُوحٍ لِلرِّيحْ،
فَالْمِيلَادُ عَلَى الطُّرُقَاتِ الرَّمْلِيَّةِ
يَسْتَيْقِظُ مِنْ حَرِّ الذِّكْرَى،
وَيَنَامُ غُبَارُ الرِّيحِ/ يُعَشِّشُ فِي بُؤْبُؤِ عَيْنَيّ.

أَهْوَاكَ حَبِيبِي/
رَغْمَ الْقَيْءِ الْفَاصِلِ بَيْنَ الزَّمَنِ الْيَابِسِ وَالْعِشْقْ..
هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ الْغُرْبَةَ أَبْقَاهَا نَيْسَانُ وَحِيدَةْ
تَسْكُنُ صَدْرَيْنَا
فِي ذِكْرَى السَّنَةِ الْأُولَى
لِوُقُوفِ التَّارِيخِ الْأَعْزَلِ مِنْ كُلِّ حَقِيقَةْ؟
لَا بَأْسَ الْيَوْمَ عَلَيْكْ
فَالنَّصْرُ دَقِيقَةْ؛
تُجْتَرُّ كَمِثْلِ النَّسَمَاتِ، وَتَعْلُو لِلْبُومِ طَرِيدَةْ.

أَهْوَاكَ حَبِيبِي/ أَبْغِيكْ
رَغْمَ خُطَى الطُّولِ، وَرَغْمَ خُطَى الْعَرْضِ
الصَّانِعَةِ الْقُضْبَانِ/ الْغَثَيَانِ/ الرَّفْضْ..
مَعْ أَنِّي أَتَسَاءَلُ حَتَّى آخِرِ أَنْفَاسِي الْحَرِجَةْ:
هَلْ يَهْوَى السَّادِيُّ سَمَائِي؟
يَسْقُطُ غَيْثِي/ غَيْثُ الْعَالَمِ أَخْضَرَ
تَنْسَابُ جَدَاوِلُ عِشْقِيَ، لكِنْ
تَبْقَى أَرْضِي تَعْطَشُ مِلْءَ الْفِيهِ،
وَتَصْرُخُ: ظَمْآنَةْ..
فِي زَمَنِ المَاءِ المُتَدَحْرِجِ
كَالصَّخْرِ (السِّيزِيفِيِّ) النَّامِي فِي لَوْنِ عُيُونِي
وَالسَّبَبُ بَسِيطْ؛
تَنْبُعُ أَفْرَاحِيَ فُجْأَةْ/
تَفْنَى فُجْأَةْ/
وَالْآنْ؛
مَا قِيمَةُ أَنْ تَسْكُبَ فَرْحَةْ/
نُقْطَةَ أَمَلٍ،
وَالْحُزْنُ مُحِيطْ؟

2.
اقْتَرَبَ الْمِيلَادُ يَلُفُّ الْأَعْيَادَ الصَّفْرَاءْ
اقْتَرَبَتْ (زَرْقَاءْ)؛
تَمْتَشِقُ الْخَطْوَ الْأَمْلَسَ كَالنَّسْمَةِ حَيْرَى
جَعَلَتْنِي أَتَذَكَّرُ حِينَ أَضَعْتُ الْحُبَّ/
غَبِيًّا كُنْتُ، وَطِفْلًا لَا يَدْرِي مَاذَا يَفْعَلْ..
أَتَذَكَّرُ حِينَ لَفَظْتُ الْقَلْبَ هُرُوبًا مِنْ نَفْسِي/
حَتَّى نَفْسِي؛
كَانَ الْوَهْمُ يُلَازِمُ كَأْسِي/
المُتْرَعَ مِنْهُ/
أَجْرَعُهُ..
حِينَ يَقُولُ الصَّبَّارُ بِصَمْتٍ وَلِسَانٍ مُتَرَدِّدْ:
(مَسْـ لُـو بَـةْ)...
مَذْعُورًا كَانَ كِطِفْلٍ مِسْكِينٍ مِثْلِي
فَقَدَ الْأَثْدَاءَ اسْتِئْصَالًا فِي لَحْظِ خُرُوجِهْ
مِنْ رَحْمِ الْأُمِّ إِلَى سِجْنِ المَقْتِ.

يَا حُبِّي..
هَلْ تَعْرِفُ أَنْ لَا شَيءَ غَرِيبٌ كَالمَوْتْ،
وَالْفَرْحَةُ فَوْقَ الْفَرْحَةِ تَبْلَى
بِأَنِينِ الصَّمْتْ؟

3.
(زَرْقَائِي)..
(زَرْقَاءُ) الْقَلْبِ المَصْلُوبِ يُكَفِّرُ بِالزِّيفْ:
عَانَقْتُ الْمِيلَادَ غَرِيبًا
فِي شَكْلِ ضَفَائِرِكِ المَسْلُوبَةِ..
خُذْنِي يَا نَبْضِي؛
أَرْحَلُ فِي وَاحَةِ حُبِّي
أَعْبُرُ مِثْلَ الْإِعْصَارِ جِبَالَ/ سُهُولَ الْقَلْبِ..
أَبْقَى فِي ذِكْرَى الْمِيلَادِ الْأُولَى؛
كَوْمَةَ أَضْوَاءٍ تَتَبَخْتَرْ..
تَسْبِقُنِي عَاطِفَةُ الشِّعْرِ إِلَى المَطَرِ القُزَحِيِّ الْأَلْوَانِ/
المَنْثُورِ عَلَى الطُّرُقَاتِ المَكْلُومَةِ.

4.
نَيْسَانُ تَمَاثَلَ لِلْمَوْتِ،
وَلَمْ تَأْتِ حَبِيبِي..
الْقَلْبُ فَسِيحٌ مِثْلَ الْغَيْمِ الْأَزْرَقِ
يَقْطُرُ أَزْهَارَ اللَّوْزِ/ الْبُرْعُمَ.. لكِنْ/
لَمْ تَأْتِ حَبِيبِي..
حَمَّلَنِي الصَّبْرُ الْأَوْزَارَ الصُّغْرَى/
قَبْلَ الْكُبْرَى،
وَصَرَخْتُ: حَبِيبِي لَا زِلْتَ، وَلكِنْ لَا ذِكْرَى
تَقْبَلُ أَنْ تُبْعَثَ أَمَلًا،
وَاللَّيْلُ يَحِيكُ المَكْرَ السَّيِّئَ
حَتَّى خُطُوَاتِيَ كَانَتْ سَكْرَى؛
تَتَمَايَلُ مِنْ حَوْلِ الْأَرْصِفَةِ المَغْرُوزَةِ فِي الْوَحْلِ/
وَلَمْ تَأْتِ حَبِيبِي.

.. وَبِشِدَّةِ شَوْقِي أَسْعَى/ أَعْمَى
وَبِدُونِ رَفِيقٍ يَأْخُذُ بِيَدِي
يَفْتَحُ عَيْنَيَّ عَلَى الدُّنْيَا؛
لِأُقَاوِمَ كُلَّ جَرَادِ الْكَوْنِ،
وَأَحْرِقَ رَحْمَ الْحُزْنِ،
وَأَمْضِي فِي دَرْبِي
نَحْوَكَ يَا حُبِّي
يَا وَطَنَ الشَّفَقِ،
فَنُضِيءُ الْعَالَمَ عِشْقًا
يَتَنَاوَلُ حَبَّاتَ الْعِشْقِ.

5.
وَأُكَرِّرُ أَكْثَرَ مِنْ كُلِّ التَّكْرَارَاتِ المَأْلُوفَةِ:
يَقْتَرِبُ الْمِيلَادُ وَيَسْرِي مِثْلَ السُّمِّ،
وَنَجْرَعُ كَأْسَ اللَّوْمِ
لِكَيْ نَمْلَأَ مِلْءَ الْكَأْسِ حُضُورًا
وَتَحَدِّيَ صَمْتٍ..
بِعُيُونِكَ آنَسْتُ المَعْنَى المُطْلَقَ لِلْعَيْشِ،
وَلكِنَّكَ عُدْتَ غَرِيبَ الْقَلْبِ/
غَرِيبَ الرُّؤْيَا/
وَغَرِيبَ الشَّوْقِ/
فَآهٍ يَا مَوْتِيَ/ آهٍ:
هَلْ بَقِيَتْ لِلرُّوحِ بَقيَّةْ؟
إِنِّي لَا أَجْزِمُ ذلِكَ؛     
فَالْمِيلَادُ عَلَى الطُّرُقَاتِ الرَّمْلِيَّةِ يَمْتَصُّ رَحِيقِي،
وَيَنَامُ غُبَارُ الرِّيحِ/
يُعَشِّشُ فِي بُؤْبُؤِ عَيْنَيَّ، وَيَدْعُونِي
- وَالْقُدْرَةُ مَعَهُ -
لِلْمَوْتْ.
،،،،،،،،،،،،،،،

(نابلس- فلسطين 5/4/1978)

 

 

تعليق عبر الفيس بوك