"كُونوا ربَّانيين..."

حاتم الطائي

القرآن الكريم منهاجُ حياة، ومنهجٌ للعقل ليعمل وينطلق بلا حُدود في عِمارة الأرض.. نَعم الحياة كلها؛ إذ كَمَا الغاية من إنزاله هِداية الناس إلى الطريق المستقيم؛ باعتباره مَتْن الرسالة التي أرسلها الله إلى خلقه، ومشعل الحق لبيان الحلال والحرام، فإنه كذلك نهج صناعة النفوس، والأمم، وبناء الحضارات، كلما ازداد الإنسان تأملاً فيه، ازداد علماً وعملاً وبصيرة، في عَلاقة يزيدها رسوخًا شهرٌ فضيلٌ أظلَّنَا بنفحاته العطرة؛ يُقبِل فيه الواحدُ منا على هذا الكتاب العظيم يقرأه ويتأمل آياته بشغف بالغ؛ متدبرًا متفكرًا.

إن "شهر القرآن" يُهيئ كل عام الفرصة أمام إعمال أكبر للعقل البشري لاستنباط المعاني البعيدة في الآيات، وفق مدلولاتها وسياقاتها. وللتوضيح فحسب، فأنا هنا لستُ بصدد تفسير آيات من القرآن الكريم، فهذا ما لا أستطيعه، فضلا عن أني لا أملك أدواته، بل هي استجابةٌ لفطرةٍ إنسانيةٍ تُعْلِي شأن العقل والتفكير والعلم؛ لترقِّي مِعْرَاج الكمال الإنساني الذي جاء به ديننا الحنيف.

...

يقول تعالى: "مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ" (آل عمران: 79)

إنَّ التباين الحاصلَ حول تفسير لفظة "ربانيين" وتقصِّي المقصود منها لغويًّا، لا يُخرِج الكلمة عن معناها البَدَهِي، الذي يصلُني ويصلُك أيضًا من الوَهْلة الأولى لسَمَاعها؛ والذي يُمكننا اختصاره في أمر الله تعالى لنا أنْ نكون معه في كل أحوالنا، أن نحترم حضرة الله، وعِلمه الذي وسع كل شيء، ونستحضر ذاتَه العَليَّة، ونظرَه السابق لنا، وقدرته علينا، وأنْ نستحضر كذلك عطفه، ولطفه، ورحمته.. أن يعيش الإنسان مع الله، فنَسَب كلمة "ربَّاني" إلى الرَّب؛ يعني أنَّ يكون المرء شديدَ القرب من الله تعالى، يتلقَّى منه منهجه في هذه الحياة، ويعتمد عليه في سَيْرِه، وأنَّ إليه مرجعه ومنقلبه.

فـ"كونوا ربَّانيين"؛ أي: كونوا عُلماء حُكماء وعُقلاء، أعْمِلُوا عقولَكم بالنظر، والتفكر، والتدبُّر، والتأمُّل، والمعرفة، والقدرة التي تدفع إلى الشعور والتفكير. فالفكرة بالأساس في إعلاء دور العقل البشري وقدراته اللا محدودة بالعلم والقراءة والمعرفة. أي أنَّ الإنسان "الرَّباني" مزيج بين الرُّوحاني والعقلي والمجتمعي، يسعى دومًا للمعرفة، واضح الرؤية، عميق المأخذ، ذو علمٍ راسخ، وعملٍ جادٍّ مُخلص يؤديه بورعٍ وتواضع، يبني نفسه ويبني غيره، يعمل بما عَلِم، ويُعلِّم ما تعلَّم، يشق لقومه الطريق نحو الفلاح والنجاح، يُربيهم، يعلِّمهم الخير، يدعوهم لما فيه مصلحتهم، سعيٌ دائمٌ لا يعرف الكلل نحو الكمال والخَير وعِمارة الأرض. ومن هنا، تأتي أهمية هذا الأمر الإلهي "كُونوا ربانيين"، الذي يمثل عُمق بناءِ شخصية الإنسان، المتخلِّق بأخلاق السماء؛ من رحمةٍ وتسامحٍ وقوةٍ وصلابةٍ وعزيمةٍ، وهي جميعها مضامينُ أسماءِ الله الحسنى وصِفاته العُليا كمعين لا ينضب.

... إنَّ تأويل "الربانية" هو "عَكْس الرهبانية"؛ فالربَّاني لا ينعزلُ على نفسه في بيته ذاكرًا، مُسبحًا، تاليًا، قائمًا، عابدًا فحسب، أو مُرتكناً لنفسٍ مهزومة غير قادرة على إحداث التغيير.. إنَّما الرباني الذي أُمِرْنَا أن نكُونَه، ذو هِمة عالية، ونفسٍ مُراقِبة، مستبشرة دومًا بالخير في الدنيا والآخرة، وهي رسالةُ السماء التي جاءتْ بها كل الأديان، وتفرضُها اليوم طبيعةُ الحياة، وحقيقة ديننا العظيم أن نكون ربانيين بمعنى الكلمة.