لماذا اقتلعتَ الشجيرات أيها التاجر؟!

 

زينب الغريبية

هالني موقف عشته الأسبوع الفائت، وأشعرني أننا نعيش في زمن بدأت قلوب البشر فيه بالتحجر، وأصبحت القيم فيه كلمات ومصطلحات جوفاء، أمّا التطبيق فشيء آخر، فقد حضرت معاملة فض عقد إيجار لبناء تجاري بين طرفين، أحدهما (المُؤجِّر) شخص بسيط، والآخر(المستأجِر) رجل أعمال ومن أسرة اقتصادية معروفة، كان انتهاء العقد بحيث يخرج كلا الطرفين بدون أن يدفع أحدهما للآخر شيئا فجميع الحقوق مستوفية.

ماحدث أنّ رجل الأعمال كان قد أقام مشروعا في المبنى ويريد أن يبيعه تجاريًا لمستثمر آخر، إلا أنّ صاحب المبنى يريد استرجاع منزله بانتهاء العقد وترتيبه ليعيش فيه مع عائلته التي بدأت تكبر ويحتاج لمنزله، فكان التفاوض هل سيدفع صاحب المبنى لرجل الأعمال قيمة بيعة المشروع التجاري؟ فهو إن استرجع منزله سيخسر رجل الأعمال مبلغا لا بأس، وبذا يكون صاحب المبنى قد أفسد عليه صفقة.

ظهر أثناء التفاوض وجهان؛ وجه أبهرني، وأشعرني أنّ الدنيا لا تزال بخير، وأنّ الناس مهما بلغوا من الرتب الاقتصادية فهم يملكون قلوبا كبيرة تشعر بالآخرين، حيث استضافنا في مقر شركته الراقي، وأشار لصاحب المبنى بأنّه سيقوم بإصلاح كل ما يرغب في المنزل، وأنّ شركة المقاولات تحت إمرته، وكان يسأله عن كم سيدفع له نتيجة إفساده صفقته. فكان رحابة الاستقبال والضيافة، والقول الحسن. تظهر رقيا يخجل الإنسان منه أثناء التفاوض.

أمّا الوجه الآخر فقد ظهر حين رفض المؤجر دفع أي مبالغ، فلماذا يتحمل هو تكاليف باهظة دون أن يكون له أي دخل فيها؟! فالعقد قانونيا قد انتهى، ومن حقه استرداد منزله في هذه الفترة وقد أخبر المستأجر بذلك في الفترة القانونية قبل إنتهاء العقد، ومن جهة أخرى فالمستأجر لا يرغب في الاستمرار في المشروع، حيث لم يحقق له الربح المطلوب، لم أتفاجأ من ردة الفعل العنيفة التي حدثت بأن قام بإزالة كل صغيرة وكبيرة في المنزل مما كان قد وضعه من تعديلات لمزاولة مشروعه، حتى ألواح الجبس كديكور حطمها دون أن تحقق له أي استفادة، وأضواء (السبوت لايت) الصغيرة القليلة القيمة أزالها، بل نزع باب الحديد الصغير الرخيص من على حائط المنزل ليرميه كخردة.

إلا أنّ ليس هذا ما آلمني بقدر ما آلمني قلع زهور ووردات جميلة وشجيرات خضراء كان قد زرعها في أحواض في ساحة المنزل الخارجية، حتى الطبيعة لم تسلم من نزعته الإنتقامية، فما ذنب الزهور الجميلة، التي كانت تعيش في سلام، تبعث نسمات المحبة والجمال لكل من يمر عليها، وتعطر الجو وتنقيه، يكفي بأنّها تبعث همسات السلام وسط هذا العالم الملئ بالحروب والكراهية.

ليسلم المؤجر بيتا خاويًا على عروشه إلا من البلاط الأرضي الذي وضعه على الأرضيات، ولو كان بمقدرته تحطيمه وحمله لفعل، ولكن يبدو أن العملية ستكلفه أكثر فتوقف.

ولم يقبل أي تواصل بينه وبين صاحب المنزل، كان يرسل عماله الآسيويين فقط للقيام بالعملية وإتمام تخليص ما تبقى من المعاملات الورقيّة، أين ذهب الوجه الملائكي الأول؟! ولِمَ تبدّل بوحش كاسر حطّم كل الأشياء الجميلة؟! يعلم أنه لن يستفيد منها، وأنه سيرمي بها حطاما، وحرم الشجيرات المزهرة من الحياة، من أجل أن تعطلت عليه بيعة، لا يد لأحد فيها، إلا أنّ الله لم يكتبها له هذه المرة، وبالتأكيد فإنّها لن تكون نهاية حياته الاقتصادية العملية.

لمَ يوجد هذا بيننا؟ أعلم أننا مجتمع يجمع أصنافا مختلفة من البشر ومتنوعة، ولكنني لم أتخيل أن يصل الأمر لقتل الزهور والشجيرات، أهكذا يصل الإنسان لمرحلة من القسوة؟ أعلم أنّ الأكثر من ذلك يوجد وأنني لم أره بعد، وأتمنى ألا أراه، فلا أريد أن أتعامل مع الشر وأعيش في لحظاته.

لم أسرد تلك الحادثة، من باب الحكاوي والتسلية، ولكن آلمني ما وصلت إليه القيم عند بعض البشر، والتشوه الذي يسيطر على تعاملات البعض، فتحكمه المصلحة، وتوجه مساره، فيظهر الوجه حسب الاستفادة من ذاك الشخص، وإن لم تتوفر فلا وجود له، إذن فهنا تسيطر المصلحة على القيم الإنسانية، ويعتقد بعض رجال الأعمال أنّ التجارة تحتاج لهذا النمط من القلوب، التي تغلف بحجاب المصلحة،  وتدفعه القسوة، دون مراعاة النتائج على الآخرين، فالأهم هو الكسب والمضي في تقدم الأعمال، فالقلوب الورعة هي ما تفسد زيادة المال، ولا أتحدث فيها كظاهرة، ولكن حالات موجودة فعلا.

وتبقى القيم السليمة موجودة بيننا، والقلوب الطيبة ترفرف حولنا، والأيادي البيضاء تتسارع للخير، ولن نقول بأن السيئة تعم، بل سندحضها، ونستمر... فكم من رجال أعمال قادوا شبابا صغارا نحو تحقيق مبتغاهم، وبناء أنفسهم، وكم منهم ساند ورعى ودعم المجتمع والخير، ووجود النمطين هو من طبيعة الحياة، ولكننا دائما ننشد الأفضل لحياتنا وبلادنا والمجتمع الذي نتفاعل فيه.