المؤسسات المجمدة: هل متخذ القرار صانع ثلج أم كاسر جليد؟

 

د. سيف بن ناصر المعمري

كيف يمكن أن نزيد من فاعلية الحكومات ونعزز من النزعة إلى المنافسة والإنجاز في هذه الظروف الاقتصادية الاستثنائية وكل مسؤول يردد عبارة معلبة كثيرا في التبرير لجمود مؤسسته وتوقف كثير من مشاريعها وخططها وهي "لا توجد موازنة"؟

هذا السؤال يجعلنا نفكر في جوانب كثيرة متعلقة بمسؤولية المسؤول الأكبر في كل مؤسسة ودوره في النهوض بها تحت أي ظرف، وفي ظل أي وضع اقتصادي، هذه الظروف هي التي تكشف عن الملهم، والمجدد، والمبتكر، والقادر على القيادة في الظروف الاستثنائية، وهذه هي سمة القيادة والإدارة التي تعمل بها كثير من المؤسسات والمنظمات عبر العالم، فهي لا تريد مسير للإدارة، ولكنها تريد قائدا يعمل على تحويل نقاط الضعف إلى نقاط قوة، تريد قائدا يحول الخسائر إلى مكاسب، تريد قائد يخلق الفرص لا قائد يبرر غياب الفرص، تريد قائد يلهم الموظفين لا قائد يحبط الموظفين، تريد قائد يغيّر المسارات وفق الإمكانات لا قائد يسد المسارات نظرا لضعف الإمكانات، ولكن ما الذي يحدث أمامنا في معظم المؤسسات هل بالفعل يوجد لدينا قادة يعملون بفكر مختلف لبث الحيوية في المؤسسات أم مسؤولين مسيرين لشؤون المؤسسات؟

لاشك أننا نجزم أن هذا السؤال لو طرح على نطاق واسع، ستكون الإجابة أن من يوجد اليوم هم مسيرين لشؤون المؤسسات رغم الظروف الاقتصادية الضاغطة ليس على المؤسسات إنّما على المواطنين والموظفين على حد سواء، وهذه السمة قادة إلى استسلام من هؤلاء المسيرين لهذه المؤسسات لأنّهم لا يستطيعون أن يعملوا في الظروف الصعبة إنّما عملهم يمضي بشكل سلس في ظروف الرخاء حيث الموازنات كانت بدون حساب، وكأن الموازنات كانت في الظاهر تغطي حالة العجز التي يعيشها بعض المسؤولين، وكانت تغطي على غياب الفكر القيادي الذي يجعل البعض يصنع مؤسسة ناجحة في ظل إمكانات بسيطة، وهذا النموذج هو المطلوب من الآن فصاعدا، مؤسسات تحقق أهداف كبيرة بإمكانات بسيطة، ومسوؤلين ملهمين يستثمرون طاقات موظفيهم بدلا من تبديد هذه الطاقات بطريقة عبثية نتيجة توقف تدفق الأموال من وزارة المالية، التي ينظر لها على أنّها حنفية يجب أن تعمل "بمضخة كهربائية" حتى يتمكن بعض المسؤولين من العمل بشكل جيد، وإذا أوقفت المضخة ولم تتدفق الأموال إلا ببطء تصاب المؤسسة بالشلل في كل شيء، ويغلق المسؤول بابه لكل مشروع يتطلب اعتمادات مالية، وتتراكم المشاريع والمقترحات المجمدة، وتتحول المؤسسة بأكملها إلى "ثلاجة للتجميد" للمشاريع والموظفين، هل القيام بدور المجمد هو الذي ننشده في ظل هذه الظروف والتحولات؟ هل سيقودنا إلى المستقبل الذين يضاعفون من درجة التجميد أم أولئك الذين يكسرون الجليد، ويعملون على إذابة كل التحديات من أجل بناء مؤسسة أخرى تعمل في ظروف صعبة.

لاشك أننا لابد أن نوجه الأنظار في هذه المرحلة الحساسة التي نمضي فيها في نقاشات حول الحاضر بتحدياته وصعوباته وحول المستقبل بطموحاته وأحلامه إلى جانب مهم جدا وهو تقييم المؤسسات والمسؤولين عنها بدلا من المضي فقط في تقييم الموظفين فقط، وتطوير معايير تقييمهم، ومحاسبتهم على الصغائر قبل الكبائر، وكأنّهم وهم - القاعدة المنسية - مسؤولون عمّا يجري من جمود المؤسسات حاليا، ماذا سوف نجني من عشرات الآلاف من التقارير التي تتراكم في الخدمة المدنية سنويا عن هؤلاء الموظفين في حين لا يوجد كشف سنوي عن تقييم المسؤولين عن الوزارات والشركات الحكومية، ما نجاحاتهم وما إخفاقاتهم، هل يعملون بشكل جيد في ظل الظروف الاستثنائية أم أنّهم عزلوا مؤسساتهم وجمدوها، وحول ساحاتها إلى جوقة لترديد عبارة واحدة "لا توجد اعتمادات مالية"؟ إنّ هذا الكشف ضروري جدًا من أجل المصلحة العامة التي كانت ولا تزال المبرر الذي اتخذت باسمه كل الإجراءات الاقتصادية التقشفية ضد المواطنين، ألا يجب أيضا من أجل هذه المصلحة العامة مراجعة وتقييم أداء قادة المؤسسات الحكومية؟ أليس من المستغرب والعالم من حولنا، والشركات المختلفة في أوقات الظروف الصعبة تستنجد بالقيادات الملهمة نجد أننا نعزز من بقاء المسؤولين المجمدين في أماكنهم بدون أي مؤشرات للتغيير تقود إلى تغيير في أداء هذه المؤسسات، ما معنى ذلك؟ هل من مجيب يحمل لنا إجابة مقنعة تجعلنا نغمض أعيننا عما تراه؟

أوقفوا من فضلكم تقييم الموظفين هذا العام وغيره من الأعوام التي ستمضي فيها هذه الظروف الاستثنائية، طالما أنكم لن تعملوا على تقييم حقيقي للمسؤولين عن هؤلاء الموظفين، طالما لن تحاسبوا المسؤول عن تقصيره، وتأثيره السلبي على مؤسسته، وعجزه عن النهوض بها، وابتكار مسارات لنموها وتحقيقها لأهدافها في ظل الإمكانات الاقتصادية المحدودة، أننا نحتاج إلى لنعرف من الأكثر نجاحا من وزراء الحكومة سنويا، أو خلال فترة قصيرة من السنوات، نريد تصنيفا للناجحين والفاشلين من المسؤولين على مختلف مستويات القيادة العليا، ونريد معايير صارمة تشبه تلك التي تستخدمها كبرى الحكومات أو الشركات على مستوى العالم، من أجل أن تجدد الثقة للمتميزين وتحسب عن المقصرين، وتحول إلى آخرين يستطيعون القيام بها، ما لم يحدث ذلك دعونا نتكلم همسا عن المستقبل، ودعونا لا نبالغ كثيرا في الأحلام، لأنّ المؤسسة العامة هي تعني إنجازا كبيرا بأقل عدد من الموارد، لا إنجازا صغيرا بموارد كبيرة.