من وحي الكاتب والشاعر


ترى من أين تأتي الفكرة للشاعر والكاتب؟، هل تفرض نفسها عليه؟! أم يغازل الأفكار يلهث خلفها فى كل مرة حتى تمن عليه بقدحها؟، أم يقبع خلف أرشيف أفكاره السابقة يقلبها، يفتش فيها عما قد يتولد من جديد فيقتنصه؟!، أم يهيم على وجهه فى دروب الصخب وضجيج الحياة وأرصفة الأوجاع والآمال، فى البشر وعلى جدران الحجر والشجر وبين جنبات النهر، وسط ضحكات المهمومين، وزفرات أنين المعذبين، وحسرات المحرومين، وعرق الكادحين، وعشق المحبين؟.. أم من بين كل هذا وذاك تأتى الومضة وتولد الفكرة؟، لتقدح زناد العقل، وتشعل لهيب الفكر، ويتوالد سيل المعانى، وينهمر غيث الكلمات، لتضع بعد ذلك مولود الذهن الجديد فى مرحلة من المخاض العسير لا تقل عنتا عن مخاض الولوج إلى حيز الحياة الصعيب.
يقول الشيخ على الطنطاوى فى كتابه "صور وخواطر" "وكذلك نفس الأديب ياسادة تتفتح تفتح الينبوع الدفاق، ثم تشح شح الصخرة الصماء ما تبض بقطرة ماء ولكن الناس لا يصدقون ذلك: أنهم يحسبون الكاتب يخرج المقال من نفسه كما يخرج التاجر البضاعة من دكانه، ولا يدرون أن هذا الكلام يجيء أحيانا حتى لا يقدر الأديب على رده، ويعزب حينا حتى لا يلقاه، وأنه يعلوويصفو ينزل ويتعكر.."
إن الكاتب والشاعر فى مشهد الحياة وصخب الحوادث، هو جزأ لا ينفصل عنها ولا يذوب فيها، أشبه ما يكون بالرسام الذى يبدع لوحة، يفضى فيها بانفعالاته كأنه يذوب في تفاصيلها، لكنه لابد أن يظل خارج الإطار مع الريشة والألوان، فهما لا ينفصلان عن الواقع إلا بقدر ما يمتزجان فيه وهما جزء منه، يعيش الأديب أوالشاعر بجسمه فى واقع، يسجل بعقله وقلبه كل ما يدور فيه، واقع يزعجه ويفرحه، يؤلمه ويفزعه ويسعده، تتقلب روحه فيه تقلب النسمة مع الرياح تشتد بها أحيانا، وترق معها حينا، ومن رحم هذه المعاناة ومن تفاعل هذه المشاعر وتناغمها، ومن بين الحوادث تأتى الأفكار والخواطر، تلقى بظلالها على القلب، وتحس بها النفس، وتتبلور عناصرها فى الذهن شيئا فشيئا حتى تخرج إلى عالم السطور أشبه ما يكون بالوليد الذى يحتاج لفسحة من الوقت حتى تتواءم نفسه مع هذا العالم الجديد.
لا يمكن ــــ كما يتخيل البعض ــ أن تفيض الكلمات ببوحها لمرتجل أو متكلف أو متصنع، إنما الكاتب الحقيقى الذى يبقى ذكره هو الذى يخرج من رحم المعاناة ويكابد آلام الواقع بين الناس، يعيش أوجاعهم، يألم كما يألمون، يأمل كما يأملون، يجوع ويشبع، يُعطى ويُمنع، يصح ويمرض.. ليس الكاتب هو هذا الذى يمر على الفراش الوثير، يجلس إلى مكتب فاخر مكيف، يفصله عن الناس نوافذ الزجاج الذى يسمح له برؤيتهم ولا يسمح لهم برؤيته، ثم يمسك بقلم من جماد يكتب عن رخاء الأسعار وعن حالة الانتعاش الاقتصادى والمستقبل الذي ينتظر الكادحين، يمنيهم بالأمانى ، ويواصيهم بالصبر الذي لم يتجرعه، ويربت على أكتافهم ليتجرعوا مزيدا من الجوع الذى لم يجربه، ويحدثهم عن المستقبل الذى لا يأتى، وقد حُدثنا عنه منذ سنين ــــ فدع السماعاـــ ، حتى تمر المحنة ونخرج من عنق الزجاجة الذى طال مع طول أعمارنا وأعمار أجدادنا ننتظر منه الخروج، فيطول كما يطول النفق المظلم أو كالليل البهيم.. ونجرع مر الصبر على مر العيش مع سخف الحياة وكدرها، ندهن كل يوم ذلك كله بشيء من حلاوة الأمل ـ الذي لا بد منه ـ  حتى تستمر الحياة، ونخادع أبناءنا عن واقعنا حتى لا تدلهم فى عيونهم الغيوب، وتكفهر فى وجوههم الدروب فيتحولون بفقد الأمل إلى طريق اللاأمل، وتسودّ فى عيونهم صفحات المستقبل، فتوأد الأحلام قبل أن تولد، وتموت الآمال قبل انقضاء أعمارها، ويصير الشباب المعد لتحمل الواقع الأسوأ المنتظر، يصير بلا واقع، ثم يتخلي عن مسيرة التحمل، فيتعب بذلك المترفون ويتكدر صفو عيشهم الذي يتمرغون فيه بفضل حملنا لأوزارهم.  
هكذا يعيش صنف من الناس فى انفصام عن الواقع، وانفصال عن الحدث، إلا من جهة التلويح والتلميح والتهليل والتطبيل، ثم يلبسون مسوح الدعاة والرهبان، ويتمسحون فى أوجاع البشر بدعوى أنهم منهم وما هم منهم ، "ولكنهم قوم يفرقون".
فالكتابة التى لا تعصف بصاحبها، فتجعله على خط الكدح، وشفا الهاوية، يتجرع مع كل فكرة مرارة مذاقها قبل أن يخرجها إلى الورق، ويحيا كل لوعة، ويهيم مع كل صبابة، يسمع كل نبضة ويعشق كل زهرة، تتربى أحاسيسه بين جنبات الواقع فلا يخرج للناس إلا صدق القول وعصارة التجربة وخبرة الممارسة والمدارسة، فإذا تكلم صدّق الناس ما يقول، وإذا كتب أقبلوا على ما يكتب، فما خرج من القلب فمحله إلى القلب، وما أفرزه التصنع وصاغة التكلف والمنفعة فهو إلى مزابل التاريخ ــــ وما أكثره ــــ  فالناس وإن ضحلت ثقافتهم أو قلت معارفهم، إلا أنهم لم يعدموا أبدا تلك الفطرة التى تميز الخبيث من الطيب والغث من السمين، وإن إنطلت عليهم بعض المكائد إلى حين إلا أنه ما يلبث "الزبد أن يذهب جفاء، وما ينفع الناس أن يمكث فى الأرض "، فالله تعهد على نفسه بذلك وإن اختلت موازين البشرية أحيانا، إلا أن هذه سننه لا تبديل لها ، فقد أراد ألا يكون للخبيث رواجا فقال:"ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله فى جهنم أولئك هم الخاسرون . الأنفال".
قد تكون الفكرة ـ للكاتب ـ هى المتنفس الوحيد الذي يفرغ في وعاءه كوامن النفس وضغوطات الحوادث، وزفرات الضيق، ويصبح الورق رغم دقته ورقته كالجبل الوتيد يحمل ما لا يستطيع الإنسان حمله بصدره، وما تضيق به نفسه، ولولا ذلك لتحولت لغة التعبير إلى شيء آخر أولغة أخرى أكثر ضراوة، أو تحولت الفكرة إلى انفجار فى وجه الحياة والطغاة والبغاة، ثم لا يعلم إلا الله وحده متى وأين يرسو هدير أمواجها.
يقول نزار قبانى: "قد تكون الرحلة متعبة، وقد تحرمكم الطمأنينة، ولكن من قال إن وظيفة الشعر هى أن يحمل لأجفانكم النوم ولقلوبكم الطمأنينة.. إن وظيفة الشعر هي أن يغتال الطمأنينة "، وكان إرنست هيمنجواي يقول " إن الكاتب الحقيقي هو الذى يقف على الحد الفاصل بين الحياة والموت، حين تريد أن تؤسس عالماجديدا على أنقاض عالم قديم، فإن كل حجر يصرخ فى وجهك وكل الأشجار المقتلعة تقف فى طريقك".
وإذا كانت مهمة الكتابة شاقة بالدرجة التى تجض به مضجع صاحبها حتى يجافيه النوم، ويسامره السهاد، وتؤرقه هموم الكلمة التى يحمل أمانتها ويسأل عن أداءها ــــإذا كان أهلا لحملها ــــ ، فإنها ولا شك أيضا ذات أثر فى المدى البعيد والقريب يتغير به أحيانا وجه التاريخ، وتصحو به شعوب من رقدة العدم، وتهب من فترة الغفلة ، فتقوم حضارة وتبيد أخرى، وتسقط أنظمة وأقنعة وتعلو غيرها إلى حين، وقد يكون وقع الكلمات على واقع البشر أشد ضراوة من أصوات المدافع ولهيب النيران، ويكون هديرها كالسيل الجارف لا يقف إلا حيث تريد له الأقدار أن يستقر بعد أن يأخذ معه زبد البشر والفكر ويبقى ما ينفع الناس يمكث فى الأرض.
قد تكون الكلمة أشد حرارة من القتال ويكون الكتاب فتحا وإرساء لحضارة وترسيخا لبناء أمة..  ولقد قال النبى صلى الله عليه وسلم عن شعر (حسان بن ثابت): لكلامه أشد عليهم من وقع النبل، وقال له: اهجهم وروح القدس ينافحك، وقال للأنصار: "ماذا يمنع القوم الذين نصروا رسول الله بسيوفهم أن ينصروه بألسنتهم"، وهو هنا يسوى بين وقع السيف ووقع الشعر على المشركين.. وقد مدح المتنبى الملوك والخلفاء والأمراء، فذهبوا وبقيت أشعار المتنبي تصدح لأكثر من ألف عام، ولا يزال الناس حتى يومنا هذا عالة على كتب الأئمة السابقين فى الفقه والحديث والتفسير والنحو والبلاغة والآداب والطب والهندسة والكيمياء، وقد تداعت الحضارة الإسلامية بعد تداعى الأمم عليها، ولكن قامت على كتبها وعلومها وآدابها حضارة أخرى هي :الحضارة الغربية، شهد بذلك لها العدو والصديق والغائب والحاضر.  
وقد شكلت أطروحات (مارتن لوثر: 1483 ـــ 1505) الـ(95) ثورة عقلية غيرت بها الفكرالكنسي الأوروبي الذى كان مسيطرا، وقسمتها إلى مذاهب متعددة (بروتستانت وكاثوليك)، وعزا البعض الفضل إليه فى انبعاث النهضة الأوربية (العصور الوسطى) بفضل هذه التعاليم التى حررت العقل وأفسحت له المجال للفكر والتجديد والثورة الصناعية الكبرى، وكذلك كانت كلمات (مارتن لوثر كينج:1926ــ 1968) سببا فى تحرير العبيد فى أمريكا، وغيرت نظرية (ماركس وانجلز) (الماركسية) وجه التاريخ فى القرن العشرين، وقامت على إثرها ثانى أكبر امبراطورية فى العصر الحديث (الثورة البلشفية والاتحاد السوفيتى)، وانقسم العالم على إثر ذلك إلى معسكرين (شيوعى ورأسمالى) واستمر الصراع حتى سقوط الاتحاد السوفيتى (1991)، وكان كتاب(الأمير) لميكافيللى(1532) من أكثر الكتب الذى أثارت جدلا فى أوربا فى ثورته على السياسة المسيحية الأوربية.
وهكذا يعزى الإصلاح فى العالم (والفساد أيضا) إلى الأفكار والكتابات والكتاب، ويظل التغيير فى العالم مرهونا بهؤلاء الأناس (اللامعقولين) كما يقول(برناردشو)، لأن الكتاب والشعراء حسب تصنيف علماء النفس(كتاب: آفاق فى الإبداع النفسي ـ د.أحمد عكاشة)، من أكثر الفئات المجتمعية ذكاء، وبالتالى أشدهم تأثيرا فى المجتمعات، ويناط بهم تلك التحولات الأيدلوجية والفكرية والتاريخية ، شريطة أن يكون التأثير فى مجتمعات لديها الحد الأدنى من التفاعل الأدبى والفكرى، تعرف للكتاب والمفكرين أقدارهم، وتجيد قراءة العالم والأحداث من حولها.
وإذا كان البعض يرى أن الكتابة نوع من الهدر أو الهذر الذى لا فائدة منه، حيث لا تطعم الشعوب جوعها من الفكرة، ولا يأمن الناس على أنفسهم، ولا ترتفع الأبنية وتنتعش الاقتصادات، ولا ينصلح التعليم والصحة بالأفكار والكتابات، إنما بالأعمال.
والقول: إن الفكرة مهما كانت بسيطة فإنها أشبه ما يكون بقطرة الماء التى تتوالى على الصخرة الجامدة، أو النبتة الضعيفة التى تحاول أن تشق الأرض شقا ، فيراها الجاهل بعقله الآفل فيقول: وما عسى أن تصنع هذه بهذه، أوهذه بتلك، ولكن ما تلبث الصخرة أن تتحطم والأرض أن تشّقق، وما تلبث خيوط النور رويدا رويدا حتى تمحو دياجير الظلام... "ولا بد للفجر أن ينجلي".

 

تعليق عبر الفيس بوك